بين الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، والحياة في سماوات علا عرضها الخيال والحلم، يعيش الإنسان / الربّ ملحمة الألوهية وعربدة المطلق، ويمارس طقوس الشهوات وملذّاتها في كون غير كائن، كون لا يحدّه حدّ، لا في الزمان، ولا في المكان، ناسل من أقاصي أحلام البشر وهم نيام ، تدور بين أحضانه أحداث حكاية، نقف فيها على نسج صانع حكيم في خلط الطين بالخيال، وربّ في عليائه عربيد، سكّير، مهياف، أثيم، متقلّب الأحوال، وجارية من نسج شهوته الربّانيّة بعثت ، ومن ضلعه خرجت، تسعى بين يديه سعي من خلقت لتغدق عليه من ثمار جسدها، ورحيق تثنّيها، وريق شبقها. وعيال في الأرض يسعون، من نطفة مارقة ساقطة خلقوا، كما " العذول " يطلبون في زوجة الربّ / الأب طربا يجنونه، ومتعة لا تنضب .
نصّ الرواية حالات كما الشعر وأحوال، لا أحداث فيه جسام، و" سبحان مغيّر الأحوال "، إذ ينزل السرد من عالم الغيب الشفيف الرقيق، ويغادر الرواي سرير الربّ " قجدع " ليفتح نافذة حكي يطلّ من خلالها على أرض الهمّ، والغمّ ، والذعر والمحنة، تحت سماء حبلى بالرصاص والأمنيات، هي سماء لبنان، وينتقل السرد من فضاء ممتدّ لا تدرك أقاصيه الأبصار إلى الأرض الموبوءة والأحلام المبتورة .
إنّ رواية "جنون الكتابة " صحف أحوال، لا صحف أفعال، تتحدّث عن سيرة مواطن لّبناني (كحيان )، يعمل في محطّة غسيل للسيارات ، قتله الماء وأفناه ، كما أفنى امّه وغيبها، وأتى على الأخضر واليابس في دفاتر أحلامه في دنيا الناس ، لكن للنفس الأمّارة بالحياة في النصّ أحكامها ، فقلب الرواي ضعف طارق الإنسان إلى قوّة في عالم الشهادة، وفي الأنام ليكون من بعد ذلك كاتبا بارعا في الجرائدة السيارة .
ويمارس إبليس الخيال التلبيس على امتداد النصّ ويغرق في تلوينه بتصاوير سمتها ضبابية الحكي وتداخل زوايا الرؤية، ويعبث الرواي بخطيّة الحكي عبثا جعل من سجلات القول كبيت عنكبوت، تأكل فيه الجمل صغارها، وتنهش الكلمات فيه رصانتها ووقارها، في رحلة عاصفة يختلط فيها المقدس السافر بالمدنّس الثائر، وتتواشج الرؤى وزواياها، فتنصهر حينا لتنفر أحيانا أخري، حالها كحال الناس المتقلّب المضطرب بين لحظات حبّ ودعة وخمر ورصاص وموت معربد على الطريق .
هي جداول ثلاثة ساهمت في بناء السرد ورفعه في دنيا التخييل بلا عمد :
الأسطورة : قجدع
الواقع 1 : رجل يقتله الماء
الواقع 2 : تحولات طفيفة جدا ...والحكاية تستمر
إنّها منابع تغذّي الخيال في دنيا الرواية، وتسعى لبناء الشخصيات وتجذيرها في أرض الحكاية ، متوسّلة بالواقعي / المرجع تارة، وبمحض الخيال أطوارا، ويتقاطع فيها ما على الأرض بالمتخيل، وما هو أسطوري بالنصوص المقدسة، وما هو هامشيّ بالنصوص الحافة ( نص البداية ونص النهاية )، لتصنع من فضاء الحكي حياة صاخبة ضاجة متناقضة، لا يكاد يفصل فيها بين الحقيقة والمجاز إلا خيط دقيق رفيع يمسك عليه الراوي كما الماسك على الجمر، إذ الرحلة شاقة بين جزر ثلاث، فالأولى حياة عرضها السماوات والسرير المقدّس والتزم فيها الرواي ( الرؤية من خلف )، والثانية عرضها الحانات والشوارع ودور العشق والدّعة والخناء فوق الأرض وفي دنيا الخلق وكان فيها الراوي عليما ( رؤية من فوق )، والثالثة في دنيا الحبر، وفي مناكب الورق تبني حياتها عبارة فوق عبارة كما البنيان، حيث خرجت الشخصيات من نص الرواية وتمرّدت على ربّها / الكاتب ومن بعده الراوي لتبني عوالمها بما كسبت أيديها، ويقعد فيها الراوي عن ممارسة دوره العليّ ، ويجلس من الشخصيات مجلس المسامر المساهم في تعرية السرائر جميعها واكتفى في جلسته تلك ( الرؤية المصاحبة) بعيدا عن مفاهيم مثل الخطيّة والأفقية والسببية .
إنّه عالم سردي يراوح مكانه بين العبثية والفوضى، وبين المعقول واللاّمعقول، وبين ما هو ثقافي وطبيعيّ، وكأنّ لسان حال المتن يقول ما قاله كارل ماركس " إنّ البنية التحتية هي التي تحدّد دين وأدب وأخلاق المجتمع.