بحث

22 يناير 2009

"براري الحمى" لإبراهيم نصر الله: المكان المريض


د. كامل فرحان صالح *

"يبدو أنك مبسوط هذه الليلة.. كأنك لم تمت"

هل يمكن اعتبار "براري الحمى" لإبراهيم نصر الله رواية؟
هل تصلح "براري الحمى" لمقاربة الواقع المتكئة عليه؟
هل ثمة امكانية للقول إن "براري الحمى" تستشف من الشعر أكثر من السرد؟
رواية أو هلوسة لغوية تتراكم فيها الكلمات والمشاهد وشخصيات تعبر دون أن يفهم وظيفتها؟ تطل شخصية وأخرى كظلال مبتورة ترمي كلمات قليلة ثم تغيب لتبقى في الواجهة شخصية الراوي الوحيدة، فتتحاور مع نفسها، تختلف، ثم تبحث عن "جثتها" الحاضرة الغائبة.
أسئلة كثيرة تطرح نفسها بعد طوي الورقة الأخيرة من الرواية، حيث يجد القارئ أنه خرج من بؤر التأويلات والاشارات والتكرار والأماكن الطوطمية والرؤى المشبعة بشعرية مكثفة دون أن يتمتع بالخروج من دوائر سعى الراوي لرسمها ثم تركها دون أن يقفلها.
ما هو ثابت أن الرواية صدرت سنة 1985 عن دار الشروق، وأعيد نشرها في ثلاث طبعات عربية فيما صدرت حديثا بترجمة دانماركية عن دار أندرسكوفن ترجمتها ماريان مادلونغ، وكانت صدرت بترجمة انكليزية عن دار انترلينك في نيويورك وترجمة ايطاليه أصدرتها دار ايليسو.
تدور أحداث "براري الحمى" في
الصحراء، تحديدا في القنفذة في سبت شمران، وحيث "الجهات كلها تدل إلى ثُريبان" ص 139، في "ظل المكان المقيد" 136. و"السيول تداهم الكائنات وسفوح الجبال" 131، فيما البيوت نوافذها عالية دائما "كنوافذ السجن" 138، و"البر الواسع الضيق المتخم بالنفط والسل" 131. فلا "مكان هنا لغير الحمى" 138. والبحر بعيد 10.
فالقنفذة وحدها كانت بجبالها الجرداء، وجلدها الحجري المتشقق تستلقي جثة متفسخة، أغارت عليها الذئاب والثعالب والضباع ونهشتها الأفاعي والليالي القاسية(13). هي القنفذة اذن. مدينة بلا بحر والماء ملؤها/ مدينة بلا أرض. والرمل يغطي كل كائناتها(49).
أما سبت شمران فحجارتها موزعة بين تلّين من الصخور السوداء... موزعة في حجارة تلمع كالسكاكين، تخترق صدور العصافير وزرقة السماء وقرص الشمس الباحث عن الظل بين البيوت. سبت شمران الحزن والدم.. والموت. وكلما مر بها غريب خيّل اليه أن حربا وقعت، حصدت الحركة وتركت الحجارة، هي حرب غير معلنة بين دبيب الحياة وهدأة الجثث (19). قرية لا تشبه القرى، غرفها صغيرة بسقوف من عيدان الذرة، أبواب بلا أقفال، ولياليها طويلة بلا ضوء

وفيما مقبرة ثُرَيبان صغيرة فان مقبرة سبت شمران أكبر، والمهبط الأفضل لرفوف الغربان، مقبرة تبدو كمدينة كبيرة ابتلعت عشرات القرى(15). لكن اللافت أن القبور بلا أسماء، بلا شواهد، قرى واسعة بلا شواهد (15).

ثُريبان تبدو من بعيد مقسّمة بين بياض غرفها، وحلكة أسوارها الحجرية العالية، وأبراجها التي تنتصب كأن الحرب ما زالت قائمة بين القبائل، فيها ساحة وحيدة تهب من بين ثناياها رائحة روث المواشي، فيما مدرستها الوحيدة مقاعد طلابها بطانيات، أما الألواح الخشبية فستكون موجودة بعد أيام (79).
يمكن للقارئ أن يستشف زمان الرواية ببدايات الثمانينيات الميلادية، وذلك إثر ورود سطر عن خبر في جريدة يشير فيها الأستاذ محمد إلى الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان (58)، والمعروف أن ذلك حدث في يونيو من عام 1982م، كذلك من خلال ذكر شق الطريق إلى المنطقة من خلال الشركة الإيطالية (ص 103، 110، 111).

انها رواية مكان يجثم على الزمن والأحداث والشخصيات، فتتبعثر الحكاية، لينتقل أولها إلى منتصفها، وآخرها يحل بداية... وهكذا، تتنقل الدوائر قصصا صغيرة سريعة، يجمعها بطل بنفس منشطرة وبظل ضائع وهلوسات لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد.

المكان يسيطر على أشخاص غائبين في الحمى، فالشخصيات بين "طعنة الحمى وهوة الهذيان"، وكما جاء في صفحة 49: "نحن هنا غير موجودين"، وفي صفحة 137: كلنا جنس واحد في هذه الصحراء تختفي الأنوثة والرجولة.
انها رواية مكان، رواية تتبخر فيها الحالة الانسانية في مساراتها العادية؛ فلا طموح ولا تطور ولا أحلام سوية، المكان هو الحاضر بثقله كله، فارضًا قرار الموت والغياب على الإنسان والنبات والحيوان والأشياء؛ فالانسان يقبع في اطارات ضيقة لا يقدر سوى على ابراز غرائز بدائية تنتفي فيها السلوكيات الحضارية، وهذا ما يظهر اشتعال غريزة الاعتداء الجسدي والروحي واللفظي، فيما النبات لا يجد نافذة للعيش في الرمل، وما هذا العجز عن الحياة سوى حالة يتماهى فيها كل شيء؛ فـ"كأن البحر هنا، ولا يوجد ماء... كأن الرمل هنا ولا توجد أرض" 53.
ويعبر البطل عن ذلك بقوله: يلزمنا روح طليقة، يلزمنا أن نكون موجودين فعلا في الأماكن التي نسكنها، ونحن غير موجودين، في أماكن ليست موجودة على الاطلاق (49). أما الأشياء فتغوص وتتهاوى وتتحول إلى كثبان رمل.

علميًّا عندما يدخل الجسد في الحرارة المرتفعة نتيجة مرض ما يفقد المصاب السيطرة على كلماته إلى حد ما، فتخرج متشظية، مكسورة، ولا ترابط فيما بينها، فتجتمع عند حدود الخوف من الموت، وبالاحساس العابر أو الراسخ أن هذا الجسد لم يعد يمتلك القدرة على العودة إلى العافية الصحة.

هل هذا يعني أن شخصية الرواية المنشطرة إلى اثنين، مصابة بالحمى؟ أم أن المكان هو المصاب بذلك؟

المكان القنفذة ... طعنة كفيلة بأن تشطر الإنسان شطرين (60)، والأستاذ محمد القادم للتعليم في هذه الصحراء يصبح تلميذًا يبحث عن "أناه" التي خرجت منه بعد أن طرق خمسة أشخاص بابه طالبين منه التبرع لدفنه لأنه "مات" بعد الغروب تماما، ومذاك يتغير الضمير المتكلم "أنا" إلى المخاطب "أنت" ويصبح أحيانا "هو"، لا سيما عندما يقطع الرواية في صفحة 33 بعبارة "مشهد" وفي صفحة 35 بعبارة " ستارة"، فيلاحظ أن صيغة الضمير تتحول إلى "هو" و"أنت" و"أنا"، والضمائر الثلاثة تعود إلى شخص واحد. وهذا الأسلوب قلما استخدم في الأدب العربي والعالمي.

الأستاذ محمد طويل بعض الشيء، شعره خروبي أجعد، عيناه بنيتان، بشرته حنطية، ويبدو حزينا بعض الشيء(87)، يعيش في "غرفة" مفتوحة على الصحراء، تضم سريرين وفراش وطنجرة وبعض الصحون، وعشرين علبة سردين، وعشر علب فاصوليا، وخمس علب فول ومثلها علب حمص، وفي زوايا الغرفة تكدست أكياس الذرة، أرضها رمل، وبابها حديدي وتعشش فيها الخفافيش. وعاش قبل قدومه إلى ثُريبان بطالة ثم اشتغل بالبناء قبل أن يصبح أستاذا لمادة اللغة العربية.
يمتلك دجاجتين بيضاء وسوداء وديك لا يصيح في الصباح (8)، وبعد الصفحة 37 حيث امتدت قصيدة على مدى صفحتين، تغير الحال، حيث "دقائق مبعثرة فقط، ثم أرعد الجمر في عظامك، ولم تعد تعي شيئاً" (37).
الأستاذ محمد حالة يأس مطلقة، "فلم يعد الظل يسكن هذا الدم الحار" (48). ولا الشجر يظلله (48)، وعندما يتحسس رأسه حتى يتأكد أنه ما زال موجودا، لا يجد طريقة ليتحسس بها يديه، ليوقن أنه قد تحسس رأسه فعلا (38). أما جسده فيعلو كشاهد قبر تغير عليه الريح فيلوذ بالجثث. وكان بوده أن يرى الأرض، الأرض خضراء، وفيها عصافير وأشجار، غزلان وأرانب برية مراوغة. وبوده أن يقرأ صحيفة في يوم صدورها. سلوته تذكر الثلج الذي كان يفترشه في سيارة الجيب، يشحن من جدة حتى القنفذة ليباع بالكيلو.
وبعد أن سعى لايجاد نفسه تعود "أناه" فجأة بعد تهديد عبشان له مطالبا إياه مغادرة المكان، بسبب خوفه على امرأته الجميلة.
مكان يتأنسن بشكل مرضي، حيث يبدو كمخلوق ضامر أكلته كل أمراض العالم، من الرشح حتى السرطان، مروارا بالسل والانفلونزا (19). مكان يجتر ساكنيه ثم يتركهم للحمى والوحدة القاتلة. مكان أيامه حجرية وسهوله حجرية تمتد مئات من الكيلو مترات. مكان ضحكته مبكية وشمسه صقر يقلب الأرض بعينيه الحادتين بحثا عن طريدة يلتهمها. مكان يطوق ساكنيه بأشجار الدوم البرية والشوك والصبار والغربان والعقارب والقرود.
أما الطريق فتسير عليها الشاحنات المحمّلة بالسُّل والدقيق، بفقر الدم وبقايا الصحف التي مر على صدورها أكثر من شهر(5). وسحابة الغبار هي الوحيدة التي تنبئ عن وصول سيارة في هذه البراري. (24) وأخبار العالم تصلك بعد أن تنتهي الحرب، كذلك الوردة تصل بعد أن تذبل، والرسائل بعد أن تفقد حرارتها في ليل الصحراء، والجثث بعد أن تتعفن(59).

لا يلمس القارئ حالة تفاعل جدية في هذه الرواية، حالة تسعى الى البناء وتحقيق الطموح ومد جسور للتواصل الإنساني، فمع كل سطر جديد تفوح رائحة المرض والخوف والقلق والجنون والموت، حتى الطاولة تفقد امكانية المشاركة بـ "علبة السردين، أو علبة الحمص، أو رغيف الخبز" (42).

بالمقابل فان الشرطة المكلفة بأمن الناس وحمايتهم من غرائزهم الشريرة لا تفعل شيئا يذكر، بل يجد القارئ عكس ذلك تماما إذ يجدها تحمي الاستغلاليين والعاجزين عن فعل الأشياء الجميلة. وهذا يتضح بحماية رئيس المخفر جابر لأحمد لطفي الشخصية الانتفاعية والعاجزة جنسيا. فيما يعجز جابر نفسه عن انقاذ الذين ضاعوا في بئر القرية. إنها شرطة تتماهى مع المطوّع الذي يدفع الناس للمسجد بالعصا (29)، والصراخ (50).

الأستاذ محمد البطل المحوري تشير الدلالات إلى أنه جاء الى هذه "الصحراء" من مكان آخر، فدفتر الإقامة الخضراء الذي يحتل منتصف الطاولة (ص 12) يعني أن هذا الأستاذ أجنبي ومسلم، ولا زال هذا الدفتر بلونه الأخضر يعطى للمقيمين المسلمين في المملكة.
كما هناك إشارة إلى ذكر الشهور كما يذكرها أهل بلاد الشام أي في لبنان وسوريا وفلسطين والعراق والأردن، مثل ذكر شهر نيسان أي ابريل، وأيار مايو، وأيلول أي سبتمبر.
وقبل أن يقابل الأستاذ محمد رئيس الشرطة يقرر أن يرتدي الدشداش، فذلك يجعله يثق به أكثر(14)، فيما اتهام الإنسان في هذا المكان باختفاء إنسان آخر "قضية تجعلك وجبة للسياف بين ليلة وضحاها" (14).
وأمام الجهات التي تبدو مشلولة تحل علبة البيبسى كولا محل المياه (22)، المياه التي ترتفع رذاذا دمويا (54)، ولا تزهر (74) وتكون دائما سيلا مدمرًا (60). ورغم ان الماء يحيي لكن لا يمنح هذه الأرض خضرة (71).
أما أغنية "القَحِم" صديق سائقي الشاحنات وسيارات الجيب فتتحول إلى مارد الغبار(25). والخواجات يبحثون عن المعادن في جبال عسير، وجبال عسير مليئة بكل شيء وخالية منّا (43). فيما الفزاعتان تنكمشان على بعضهما خوفًا من المناقير الصغيرة الجائعة أبدًا (76).

رغم الغياب الفاعل للمرأة في الرواية، إلا أنها تحضر في وجوه مختلفة، وفي كل مرة تطل من بين ثنايا الرمل ليست ككائن متكامل بل إلى جانب الرجل، باستثناء أم الأستاذ محمد التي ذكرها في بداية الرواية ثم غابت.
وإذا فتنة نساء ثريبان لا تطاق (23) إلا أن هناك تعاطفا عاليا للأستاذ محمد مع المرأة؛ فالعمة جرادة (119) طيبة كأمك، ويخاف على فاطمة حين تعلم بموت طائرها (12- 13)، والصغيرة معيضة ابنة العم سعود تملأ البر بصياحها وثغاء أغنامها، ويفرحها التلصلص على الاستاذ (13- 76). فيما تصبح ابنة سعد صوتا هائما في البراري. وعليّه أخت حنش هي الوحيدة التي تستجيب لأخيها الذي يحتضر (30).
تغيب تفاصيل الكثير من النساء في الرواية، وتبرز العمة صالحة "التي تبزغ في الحلم فجأة"، تحمل سبعين عاما بملامح قاسية وجمال مركب وبشرة سوداء وقسمات متناسقة، أنفها صغير وفمها صغير، قامة طويلة، ترتدي فستانا أصفر، تدير مكانا هو مقهى واستراحة وفندقا، يرتاده سائقو الشاحنات.
العمة صالحة انسانة مسالمة زنجية نموذجية، تعابث أكثر من سائق، وتدخن النرجيلة، وترفض سماع الراديو (60 – 61- 62-63) ويقال انها ببظرين بخلاف كل نساء الأرض (80) وقد تم توظيفها مع ابنتها سالمة لأن يختار مدير التعليم بيت الشيخ حجر ليكون مدرسة القرية (80)
إلى جانب ذلك تبدو فاطمة ابنة أبي محمد لا كصوت مستقل إنما تأخذ مساحة وجودها من خلال كلام الأستاذ محمد عنها، حيث تحضر كأبيها لتعكس ذات الشخصية الرئيسية المتماهية مع أنثى تبحث عن الحياة في هذا الموت الجاثم على كل شيء. وحليبها ينساب فجًا كالحزن، مرهقا كأعالي الدوامة، محتقنا كدمعة، عشرات الأيادي تحلبها، بأصابع جائعة..(70)

أمام شخصيات تعبر الرواية دون ملامح متكاملة وبناء درامي يصل إلى ذروته، تجيء شخصية أبي محمد التي تتقاطع مع شخصية الأستاذ محمد. فأبو محمد رجل طيب يقيم في هذه الوحشة (66) رجل ما أن تلمحه تحس بأن كل الأشياء الجميلة في داخلك تأوي إليه(73)، فلاح بجسد نحيل وبسنينه الستين يسعى لتحويل الرمل إلى تربة صالحة للزراعة أو لأن ينبت فيها ظلا (69) ويعاني من جشع أحمد لطفي.

هذا التقاطع بين أبي محمد والأستاذ محمد يتجلى في أكثر من مسار، وأبرز ما يجمعهما احساس كل منهما بالمكان، ففيما الأول يسعى لتحويل الرمل إلى أرض، يستسلم الآخر للرمل كليّا وبشكل مرضي. ويمتد هذا الى اللغة، حيث يجد القارئ هذه اللغة العالية بشاعريتها عند أبي محمد وكأن من يتكلم هو الأستاذ لا هو، يقول أبو محمد:

هذه الأرض تخذلني يا فاطمة.
تخذلني... /وتخون عرقي./ ومحراثي
تخون يديّ هاتين/ تخون حنيني للحياة / تخونني (72)
هل ثمة ألم أقسى من فعل الخيانة ؟ خيانة مكان لأحلامنا، لأن يتنفس الحياة.
في المقابل ثمة شخصيات تعبر دون ملاحظة أثر فاعل لها، كالحاج "أبو عزمي" وطاحونته (7)، وأخيه الصغير نعمان الذي ذكر أنه سيصل في الصفحة التاسعة ولم يصل. أمه. والحاج العاني الذي يملك من الدكاكين ما يصل سهول تهامة وجبالها بساحل البحر الأحمر (21). علي (22) وأبو علي (22). وعبد الله الذي سقط في البئر (27) كذلك عبد الرحمن السمين (29). والعم سعود الذي يستعمل الغرفة مخزنا للذرة. وحِركان الشمراني الذي يجلب البريد (57). والدكتور (60). والشيخ حجر صاحب المدرسة وشيخ المسجد وزوج أربع نساء (77) وسالم الشمراني العائد في إجازة من الجيش، يسوق غنمه ويريد أن يرتاح من حر تبوك (78)

حمى الألوان

أمام هذه الحمى المبعثرة على مدى الرواية، تبدو الإشارة للألوان لافتة، وقد توزعت على البشر ضمن ثلاث شرائح؛ فالأسود للعجائز والأصفر والبرتقالي للصبايا والأبيض للرجال. كما تبرز تربة المقابر الخضراء، والصخور بلونها الأسود، وقمة الجبل السوداء.
لكن اللافت كان التوظيف المتسع للون الـ"أبيض" في الرواية، فرغم أنه لا يرد سوى 15 مرة تقريبا، إلا انه يعكس مرايا المكان المتفسخة والروح المتهشمة المتعبة والغرائز الوحشية، وكان ارتباطه كصفة بالأشياء والحيوانات دلالة على الموت والغياب والانهيارات، ومن وجوه ذلك:
"لحظة واحدة كنت فوق ذلك الحجر الأبيض الكبير الذي استلقى أمام الغرفة منذ زمن" (13) .
الرجال أسماك قرش بيضاء.
نمل أبيض يجتاح الذرة البيضاء، يأكل أرجل الطاولة، النمل الأبيض مرعب يأكل كل شيء دون أن نراه. يقتل الأشياء حولنا دون أن نرى موتها. كثيب من النمل الأبيض.
الدجاجة الطويلة البيضاء تتململ, لا تتحرك كانت أشبه بحجر غافٍ.
الجبن الأبيض الذي يتعفن.
الخطوط البيضاء، الوجوه الغريبة البيضاء، لوحت الأيادي البيضاء بالحبال، ثوب نومها الأبيض.
تعثر الأبيض.
أعادوها بثوب أبيض. أي بالكفن.
الصراع بين المادة والروح
كل ما في يدي من مال يستعبدني (137)
تختزل هذه الجملة القصة كلها، فان يترك الإنسان بلده إلى بلد آخر بحثًا عن الرزق والعيش الكريم، يصطدم بعد الدخول في الهجرة بصراع نفسي حاد، حيث تتناثر منه ذكريات ما مضى بألم شاسع مع كل خطوة في العالم الجديد، فالإحساس بترك أمكنتنا الأولى التي امتلأت بها ذكرياتنا إلى أمكنة أخرى فارغة من تفاصيلنا تماما يتحول إلى شرخ قاس في الروح، ويصبح المرء أمام دربين: فقدان الروح أو امتلاك المادة.
الروح يصعب عليها التأقلم مع محيطها الجديد فتصبح ثقيلة في الجسد، مريضة، روح تخشى "التعود"(51)، وتأنس الوحشة(52)، والكابوس الجميل(55). تبحث في الذاكرة عن لعبة "تخبا مليح أجاك الريح" لتبدو كحالة صالحة لهذه الغربة الشاسعة كالصحراء، فيما تلوح بيديك دون أن تلمح بشرًا (55). ويصبح أفضل وسيلة لقتل الوقت النوم (64).
الاستعباد يتجلى بظاهرة نسيان الوجوه وهروب الزمن، فتعيش وكأنك ميت في الوقت نفسه.

شاعرية السرد

وصفت هذه الرواية بأنها أبرز الروايات ذات الصبغة الحداثية، على حد قول د. سلمى الخضراء الجيوسي، وانها رواية تدفع بكاتبها للانضمام إلى كتاب ما بعد الحداثة في العالم العربي، كما ترى د. فدوى مالطي دوغلاس رئيسة قسم الدراسات الشرقية بجامعة انديانا.
ونلمس في الرواية معرفة عميقة بأصول وتجليات الثقافة العربية والثقافة الغربية والتقاليد الأسلوبية في الأدب والشعر والسينما، إذ الناقد الإيطالي فليبو لا بورتا يعدّها واحدة من الروايات الكفيلة باثارة دهشة القارئ بعيدا عن الاستهلاكي الذي يروج محمولا على نظرة ذات طابع استعماري، حيث نرى نصر الله يستخدم تقنية سردية موازية لذلك التمزق في الوعي والازدواجية التي تعيشها الشخصية الرئيسة الواقعة بين فكي الخلل المطلق وسؤال المصير ومغزى الحياة.
بالمقابل يلحظ الشاعر والروائي الانجليزي جيرمي ريد أن ما نحصل عليه من خلال البحث يحمل الحدة الهلاسية لقصيدة نثرية، أو قصيدة غنائية متأججة لا تعدم السخرية الخاصة بمسرح العبث.
أمام تناقض النقاد في نسبة هذه الرواية للحداثة أو ما بعد الحداثة، فان مقاربتها تظهر مسألة خروجها عن كلاسيكية الرواية المتوارثة، بحيث ترتمي بكل ثقلها في مساحة من شاعرية السرد إذا صح التعبير، ولعلها كانت نصّا شعريا طويلا جرى التعامل معها لتفتح نوافذها على السرد، فتقف بين منطقتي الإبداع: الشعر والرواية، وتصبح لا شعرا ولا رواية بالمعنى التقليدي، إنما نصّ يحمل عنوانا تأنسن فيه المكان: براري الحمى.

يصعب على لغة سردية جافة مقاربة الصحراء، فهذا العالم الفائض بحضوره، بصمته القاتل، والشاسع بتأكيد غياب الحياة عن روحه وتفاصيله، تدفع المرء لأن يتحدى ذلك بالشعر، وهذا ربما ما يفسر لنا بروز الشعر في الصحراء منذ آلاف السنين قبل أي فن أدبي آخر.

هل تمكن نصر الله من تقديم نص وفيّ لواقعه؟ 

سؤال تبدو الإجابة عنه مربكة، لذا، لأقل أن ما خطر في ذهني وأنا أطوي الصفحة الصغيرة من الرواية:
هل إذا غيرنا أسماء الأماكن سيؤثر ذلك على بنية الرواية؟
وأجبت بشيء من الاقتناع: لا، فهذه الرواية تتوسل روح "المكان المريض" أو "اليباب" كما توسل ذلك أكثر من شاعر وروائي غربي وعربي في نصوصهم، حيث لا تبدو أسماء الأماكن ذات قيمة، انما قيمتها بما تسيله من لغة شاعرية أو سردية، تضيء في نفس قارئها أسئلة عن الحياة والوجود والحب والكره والموت، أسئلة تمس الذات البشرية القلقة باستمرار مهما كان المكان الذي تقف عليه.

جدة في 5/ 11/ 2006

* ورقة ألقيت في نادي جدة الأدبي ضمن ملتقى جماعة حوار

نشرت في :  صحيفة عكاظ   و مجلة الرواي و المجلة العربية

جديد الموقع

الأكثر مشاهدة (كل الوقت)

خذ ساقيك إلى النبعخذ ساقيك إلى النبع by كامل فرحان صالح
My rating: 5 of 5 stars

ديوان «خذ ساقيك إلى النبع» للشاعر والأكاديمي اللبناني كامل فرحان صالح، صدر لدى «الهيئة العامة لقصور الثقافة» في القاهرة في العام 2013، ضمن «سلسلة آفاق عربية» الشهرية. وأتى هذا الديوان بعد عشرين سنة من صدور ديوان «كناس الكلام» للشاعر صالح، الصادر لدى دار الحداثة في بيروت في العام 1993.
يضم الديوان الجديد الذي وقع في 139 صفحة، 44 قصيدة، وقد أهداه صالح «إلى أرواح من عبروا». أما الغلاف فهو من تصميم أحمد اللباد. يعدّ «خذ ساقيك إلى النبع» الرابع لصالح، بعد « أحزان مرئية » (1985)، و« شوارع داخل الجسد » (1991). و« كناس الكلام ». كما له في الرواية: جنون الحكاية - قجدع ) (1999)، و« حب خارج البرد » (2010). وفي الدراسة: « الشعر والدين: فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي » (ط1 ــ 2004، ط2 – 2010). و" حركية الأدب وفاعليته : في الأنواع والمذاهب الأدبية " (ط1: 2017، وط2: 2018)، و" ملامح من الأدب العالمي " ( ط1: 2017، وط2: 2018)، و" في منهجية البحث العلمي " (ط1: 2018 ).
كتبت عدة دراسات وقراءات في الديوان، ويمكن الاطلاع عليها عبر موقع الشاعر، عبر الرابط الآتي:
https://kamelsaleh1969.blogspot.com/s...
ويمكن تحميل ديوان خذ ساقيك الى النبع من هنا :
https://documentcloud.adobe.com/link/...

View all my reviews