بحث

22 يناير 2009

بدرية البشر..الوعي في مواجهة بقعة الزيت


د. كامل فرحان صالح


يبرز في كتابات الروائية والقاصة والكاتبة الدكتورة بدرية البشر خيطٌ رهيفٌ تنتظم فيه هواجس امرأة مسكونة بالوعي والأسئلة والقلق، تطلّ على مجتمعها بعينٍ دامعة أحيانا، وأحيانا ساخرة أو ناقدة أو متأملة.

تمورُ في ابداعات بدرية تموجات مجتمع لا يتواصل أبيضُه مع أسوده إلا في أمكنة خارج الحياة، عالمان تسعى هي من خلال كتاباتها، أن تمدّ بينهما جسورًا من التواصل والعلاقات الإنسانية الصحية والسلمية والعادية، غير أن الوقوعَ من الحلم يماثلُ الاستيقاظَ من كابوسٍ مرعب. وها هي تحفرُ في خطوطِ الطول والعرض منذ عملِها الأول "نهاية اللعبة" الصادر عام 1992، امتدادا لـ"مساء الأربعاء" عام 96 م، و"حبة الهال" عام 99، وهند والعسكر عام 2005. وصولا الى أبحاثها في: "معارك طاش، قراءة في ذهنية التحريم"، و"دولة الحريم" و"العولمة في مجتمعات الخليج العربي دراسة مقارنة بين دبي الرياض". فضلا عن مقالاتها الصحفية وأوراقِها البحثية التي قدمتها في عددٍ من المهرجانات والمؤتمرات والندوات المحلية والعربية والعالمية.

ومثلما بدرية البشر هي مبدعة فهي كاتبة تحسّ بروح المسؤولية لذلك تقول في حوار صحفي: "إنني أقصّ حكاياتٍ لا جديد فيها غير أنها لا تزال تحدث حتى يومنا هذا!".

هي هنا لا تعترف إلا لتبرزَ سوداوية القصص التي تكتبها، فالروتين التي تشير إليه بابٌ محوريٌّ لرؤيةِ بقعةِ الزيت التي تتسع في واقعٍ مأزوم يجيد الهروب من المواجهة.ورغم اختصاصِها بهموم النساء "المختبئات في كهوفهن" كما تقول، لا توجّه بدرية أصابعَ الاتهام إلى الرجل، وفي هذا السياق تقول: "حين كتبتُ قصصي الهائمة على وجهها في البحث والأسئلة لم أكن قد عرفت الإجابة بعد. كنت أظن أن الرجالَ أحرارٌ أكثر منا نحن النساء، لكنني اكتشفت اليوم أن الرجالَ مساكين مثلنا، هائمون على وجههم في فراغ آخر. فهم يجربون أكثر من النساء في البحث، لكن تجاربهم لا تملأ أرواحهم ولا أحلامهم بالرضا، انها فقط رغبات جسدية يعودون بعدها مثلنا، ظامئون يحنون لعلاقة إنسانية حقيقية في مجتمع طبيعي".

هذا الرأي الذي يعطي معنى حقيقيًا للأفقِ الذي تمارسُ فيه كتاباتِها، لا يأتي من فراغٍ ورؤية شخصية، بل من قراءةٍ عميقةٍ لواقعِها كما تراه، وكما تعايشه أيضا.

وترى في ظلِّ غياب تطور الحوار بين المرأة والرجل باتجاه بعضهم البعض، لن ينجحَ أيّ منهم في الخلاصِ من رحلةِ التيه هذه، مشيرة إلى وجودِ أوهامٍ يصنعُها كلّ منهم بعيدا عن الآخر بفعل بعض الترسبات الثقافية التي تجاوزها الزمن، وهي ما تزيد غربتهم عن بعض.

بدرية كتبت قصصا عن نساءٍ ضاعت أرواحهن في البحث عن الوجود والاعتراف بهن والحبّ، وفي معظمِ ما قدمته تركت النهايات معلقة، كأنها تنتظر تشكلات المشهد في أيام مستقبلية، علها تحمل ما يشفي الروح ويهدئ من دورانها وراء الإجابات المستحيلة في غالب الأوقات.

بدرية البشر لم تخرجْ من السردِ إلى الهمّ الأكاديمي إلا لتكتسبَ مهارةً فائضةً في نسجِ لغتها الخاصة، وخطابِها الإنساني العالي، ففي كتابِها "وقع العولمة في مجتمعات الخليج العربي: دبي والرياض أُنموذجان" وهي أطروحتها للدكتوراه، تسعى لرصد الموضوع من خلال 3 وسائل: الفضائيات والإنترنت والهاتف المحمول، تلك التي تعدّ من أبرز الابتكارات التي تنساب عبرها مفاهيمُ العولمة وثقافتها، وتسهم، كثيراً، بعمليات الاحتكاك الثقافي. وتلحظ في بحثها أن موقفَ الثقافة المحلية في مجتمعات الخليج اتصف بالاضطراب والقلق تجاه هذه الوسائط التكنولوجية الهائلة بإمكاناتها، إضافة إلى الالتباسِ الذي جلبته هذه الظاهرة الجديدة، وما تجلّى في تباين ردود الفعل تجاهها حتى في المنطقة الواحدة. وقد تقصّت ودرست الظاهرة، عبر البحث النظري والبحث التطبيقي، ومما لا شك فيه، ان دراستها هذه، تعدّ من البواكير الأولى التي تناولت وقع العولمة وتداعياتها في الخليج.أما في كتابها: طاش ما طاش، فتقدم قراءة في ذهنية التحريم، متناولة أبرز الحركات الإسلامية في المملكة. وترصد المسلسل في الصحافة عبر مفهوم النقد، وشعبيته، والمعارضين له، لا سيما من خلال معارك "المتدينين" عبر دعواتهم لتحريمه. وقد قدمت بدرية الكتاب بقولها: "عندما خطرت لي فكرة هذا الكتاب (أن أرصد ردود الفعل حول مسلسل: طاش ما طاش) كنت أتحركُ من منطلق أنني في المقام الأول باحثةٌ اجتماعية، وفي المقام الثاني كاتبةُ رأي في الصحافة السعودية، ولطالما كنت مشغولةً بهمومِ مجتمعي، ومهتمة برصد ظواهر الواقع الاجتماعي ومحاولة فهمها وتشريحها وعرضها للرأي العام. كنت أشعرُ على الدوام بمسؤوليتي الجادة، كمواطنة أولا وباحثة اجتماعية وكاتبة رأي ثانياً، أن أقدم وجهةَ نظري فيما يحدث، ومحاولة إثبات أن الواقعَ طالما احتمل وجهات نظر متعددة فإنه واقع صحي يقدم عدة خيارات لكل قارئ ومتأمل". لتخلص إلى القول: "إن من يدعي أن الحقيقة لها لونٌ واحدٌ ووجهةٌ واحدةٌ لا شك أنه صاحبُ فكرٍ مأزوم".

بدرية البشر هذه السيدة المثقفة في طرحِ أوجاعها وقلقها و"عولمتها" و"قهوتها"، فرغم أنها نقلت أحيانا الصورةَ المشروخة كما هي، إلا أنها تمكنت وستتمكن من مواصلة إضاءة دروب مجتمعاتنا بنور الوعي والإدراك والمحبة في مواجهة شرسة لعقول لا تزرع سوى العتمة والسواد والكره والارتياب من الآخر.

جريدة عكاظ ( الجمعة 30/11/1429هـ ) 28/ نوفمبر /2008 العدد : 2721

*ورقة مقدمة الى جماعة السرد في نادي جدة الأدبي، 25/11/2008م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يسعدني أن أسمع رأيكم

جديد الموقع

الأكثر مشاهدة (كل الوقت)

خذ ساقيك إلى النبعخذ ساقيك إلى النبع by كامل فرحان صالح
My rating: 5 of 5 stars

ديوان «خذ ساقيك إلى النبع» للشاعر والأكاديمي اللبناني كامل فرحان صالح، صدر لدى «الهيئة العامة لقصور الثقافة» في القاهرة في العام 2013، ضمن «سلسلة آفاق عربية» الشهرية. وأتى هذا الديوان بعد عشرين سنة من صدور ديوان «كناس الكلام» للشاعر صالح، الصادر لدى دار الحداثة في بيروت في العام 1993.
يضم الديوان الجديد الذي وقع في 139 صفحة، 44 قصيدة، وقد أهداه صالح «إلى أرواح من عبروا». أما الغلاف فهو من تصميم أحمد اللباد. يعدّ «خذ ساقيك إلى النبع» الرابع لصالح، بعد « أحزان مرئية » (1985)، و« شوارع داخل الجسد » (1991). و« كناس الكلام ». كما له في الرواية: جنون الحكاية - قجدع ) (1999)، و« حب خارج البرد » (2010). وفي الدراسة: « الشعر والدين: فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي » (ط1 ــ 2004، ط2 – 2010). و" حركية الأدب وفاعليته : في الأنواع والمذاهب الأدبية " (ط1: 2017، وط2: 2018)، و" ملامح من الأدب العالمي " ( ط1: 2017، وط2: 2018)، و" في منهجية البحث العلمي " (ط1: 2018 ).
كتبت عدة دراسات وقراءات في الديوان، ويمكن الاطلاع عليها عبر موقع الشاعر، عبر الرابط الآتي:
https://kamelsaleh1969.blogspot.com/s...
ويمكن تحميل ديوان خذ ساقيك الى النبع من هنا :
https://documentcloud.adobe.com/link/...

View all my reviews