بحث

8 أغسطس 2021

أمسية حبر أبيض: قراءة في شعر رنيم ضاهر ورينيه زوين نصار

 

قراءة الدكتور الشاعر كامل صالح في بعض نتاج الشاعرتين رينيه زوين نصار و رنيم ضاهر 

السبت في 8 آب 2021 في ملتقى حبر أبيض


يصعب أن تكون موضوعيًّا وحياديًّا مع الشعر؛ فالشعر يشكّل تحديًّا قاهرًا للأكاديميا، لمنطقها الرصين، ولأناقتها الفاخرة.
فكيف يمكن لنا أن نعقد هدنةً بينهما؟ وهل نقدر؟ وهل من الضرورة حدوث ذلك؟
يتأزم هذا الوضع مع الكلام المنبري؛ فالمنبر يحتاج إلى عبارات واضحة، مكتملة، من دون الحاجة إلى لائحةٍ من الإحالات والمراجع... وفوق ذلك، تسقطُ مع المنبر، سيادةُ الورقة، ويتحولُ الحبرُ إلى نبرة، نبرة تعرف متى تعلو، ومتى تهبط، ومتى تسير في دربٍ مستقيم... من هنا أسعى إلى الوقوفِ في المنتصف، بين قراءتين: موضوعية وذاتية، علّني بذلك أقدر على تقديم قراءةٍ خاصة في نصوصِ الشاعرتين رينيه زوين نصّار، ورنيم ضاهر، قراءة مواربة حينًا، ومباشرة حينًا.


*

بدايةً، وبعد قراءة أولية لنصوص الشاعرتين، يجدُ المرءُ نفسَه، أمام مزاجين لا يجمعهما شيء حتى الشعر؛ ففيما رينيه تهاب الاقتراب من جحيم المعنى، وتشاء الجلوس أمام مشهد الغابة، متكئة على تركيب لغوي آحادي الاتجاه من الأنا إلى الهو، ترمي رنيم كلَّها في نار الغابة المشتعلة، من دون اكتراثٍ لتشظيات التأويل، وحدودِ الصمت، وحدود الموت، فيفضحُها نواحُها الداخلي، وتفضحُها انكساراتُها التي تنمو كالصبّارِ على ضفتي نهرٍ لا يسير إلى بحره ولا يعود إلى منبعِه. في تلك اللحظة، في تلك الحَيرة القاتلة، يتلاشى صوتُ الماضي والحاضر والمستقبل لتكتملَ العبارة الناقصة عبر لغةٍ دائرية؛ نقطةُ الارتكازِ فيها "أنا" شاعرة تحرقُ كلَّ وسائلِ النجاة، وتشاء أن تكون كطائرِ الكوتيزال أو طائر الحرية الذي يقتل نفسَه إذا وقع في الأسر.

*

بدا ثمة إمكانية لوضع خطٍّ فاصلٍ بين التجربتين الشعريتين، وضمن حقلين معجمين دالين:

- أولاً: تجربة رنيم

يمكن وضع هذه التجربة تحت عناوين: الأنا النازفة، وما يتفرع منها من لغة البوح الداخلي الذي يرتقي إلى مستوى الصراخ من دون صوت، والبكاء من دون دموع. لذا تسيطر على موضوعات النصوص حالات الفقد، والموت، والنقصان، والنهايات... وما قد يبدو لافتًا للانتباه في هذا الخصوص، هو تمجيد الألم، والخسائرِ على المستويات كافة، وكأن كيانَ الحالةِ الشعريةِ لا يكون إلا بالسيرِ على دربِ الجلجة، وجلد الذات.
يمكن للمرء أن يتمثلَ في هذه الحالة، نماذجَ من شعر رنيم، تقول:

عوائي تأمل في الأشياء / صوتي يموت معي / الذئب بخير / أنبح بمئات الأحلام / يدك تقبلني كعبارة ناقصة /
أخشى أن ألده/ يومًا ما سيسألني عن رماد والده/ يومًا ما لن يجد أبًا ليقتله.

رنيم في هذه الشواهد الأولى المنتقاة من مجموعة نصوص لها، ترسمُ شكلاً لإطار الأنا في لحظة التلاشي، فتجهد في بناءِ صورةٍ شعريةٍ ترتكز على عنصري التجسيد والتشخيص، ضمن مساحةِ تشظياتِ الأنا في رحلتها ما قبل الأخيرة، لذا يأخذ العواءُ روحَ الشاعرةِ ويتأملُ الأشياءَ، ويصبح الصوتُ جسدًا صديقًا ليموتَ مع صاحبه، ويرتفعُ الصراخُ إلى مستوى النباح لا ليرفعَ الصوت إلى مستوى ألمِ الخسارات، بل ليحلمَ، وتتحولُ اليدُ إلى فمِ عاشقٍ، لكن ليس بهدفِ استحضار حالة الكمال، بل ضمن حالةِ النقصان، وكأن اختزالَ حالةِ العشق بقبلةٍ ينتج بالضرورة حالةَ نقصٍ في المشاعر. لذا تصبح كلُّ العبارات ناقصةً تبحث عن كمالها الفعلي والاسمى.
تفتح رنيم المشهديةَ المرعبةَ على اللا مستقبل، فهي متأكدة مسبقًا ويقينًا، أنها ستكون وحيدة في هذا الغد الآتي، وكأن الشعرَ هنا يصبح في الوقت نفسِه، عرّافًا يحملُ رسالةَ اعتذارٍ لما يمكن أن نتوقعَ حدوثَه لكنه لا يحدث.
وإذا أردتُ عن قصدٍ تأجيلَ الحديثِ عن المشهديةِ الأخرى البارزة في نصوص رنيم، فهذا لأنها تأتي لتتوجَ هذه الحالات من التشظي، والخسارات، وأقصد بذلك: أيقونة الأرملة.
صحيح أن التلميح لهذه الأيقونة، قد جاء في غير بُعد من أبعاد النصوص أعلاه، ولا سيما في النصِّ الأخير، لكن ما قد يجعل المرء يتوقف هنا هو تكرار هذه الأيقونة المفتاح في عدة نصوص. فماذا يعني أن يمتلكَ المرأةَ إحساسُ الفقدِ والخسارة والوحدة؟ فالأرملةُ بالمفهوم المباشر، والبسيط، هي الزوجة التي مات زوجها، شريكُ حياتها. أما على مستوى التأويل الخاص، فالأرملة هي الأرض التي تحولت إلى رمل لم يعد صالحًا للزرع، بعد أن كانت ترابًا يمكنه أن يحتضن آلاف الغابات والحقول والحياة بأشكالها المتنوعة والمختلفة.
يرتسم هذا التساؤل أكثر حدةً عندما نقرأ الآتي لرنيم. تقول:

تصب القهوة في صوت جدتها/ تحلم فقط بنبش العظام من أرض محسوسة / يسير إلى ختام الغابة / عوت في هواء مجعد / وديان قاحلة / أتلهى بمد حبال الغسيل / الذاكرة موضوع إنشاء / عباراتي طينية.

ثم يمكن للمرء أن يلحظ، أن كل ما ورد أعلاه، يخضع للدائرة الكلية المحيطة لكل "أنا" رنيم، تلك الدائرة التي تمتلك المفتاح، لكن لا تجد الباب. فلنلحظ العبارات الآتية:

قبيحة كأرملة / الشعر أرملة أبدية /
يُودع أرملتَه في البئر/ ويمضي كفيلسوف شاحب /
لكلبة تشيخ عند قدمي صاحبتها الأرملة / ... إلخ

نحن هنا أمام الستارة الأخيرة من المشهد، في اكتمال العبارة الشعرية بالفقد واللعنة، والخسارة. لكن لهذه الستارة ظلالاً، تتشح بحكاية يوسف النبي، وبقميصه، وبخيانة إخوته، بيد أن الانزياح هنا، كسر الحكاية المقدسة، فلم يرم "الهو" (أي الفليسوف) تلك الأرملة في البئر، بل أودعها، ولم يكن انبعاث لـ"الأنا" (الأرملة)، بل جالة انتظار وترقب لشحوب الهو الفيلسوف.
سأكتفي بذلك، ولن أتوسع أكثر في الحفر في نصوص رنيم (كما سأفعل مع نصوص رينيه)، لأن ذلك يستدعي رسم خطة منهجية تراتبية، تستند إلى منهج أو أكثر، فضلاً عن التوسع في التوثيق والإحالات المرجعية المعنية. والمقام الآن لا يسمح بذلك.

- ثانيًا: تجربة رينيه

يمكن وضع بعض نصوص رينيه تحت عناوين: الآلهة الأنثى و"الهو" الرجل، وتتفرع لغةٌ عاليةٌ وحازمةٌ من ذلك، بعيدة من الغوص في تشظيات التأويل، والصور الغامضة، والأبعاد المتشعبة.
يبرز فى نصوص رينيه خطابُ السلطةِ عبر حالات مختلفة من صيغ الأمر، بهدف استعادة مشهدية العصر الأمومي الأول قبل سيطرة الرجل على الأرض. فيلحظ المرء أن رينيه تفرض النظرةَ الآحادية للآلهة الأنثى، كأنها كلام البدايات المقدس، فلا نقاش أو اعتراض، بل "كن".
تقول رينيه:

يا رجل روحي كن إله قلبي

يبرز في هذه المشهدية، الفعلُ الأنثوي الآمر، جليًا وواضحًا، وفي الوقت نفسِه يرتسم النداء، والنداء يفضح البعد، إذ يكشف للمتلقي، عن وجود مسافة بين طرفين.
لا تكتفي رينيه بهذه اللغة العالية الآمرة، بل تُغرق بعض نصوصها في أفعال الأمر الموجهة إلى الهو الرجل، ومن ذلك:

حارب / اقطع / استأنس / لا تتنازل...

فرينيه تريد رجلاً من صنعها، تشكل هي طينتَه، وتحدد هي سماتِه وخصائصَه، وردودَ أفعاله. إنها تستعيد الدور الأول للمرأة الإلهة، لذا لا يعنيها الموعد أي اللقاء بهذا الرجل، بقدر ما يعنيها العشق لانتظاره، أي لانتظار أن يصبحَ كما هي تريد وتشاء، ليكون إلهًا مثلها. تقول:

وأنا في انتظارِ موعدنا عشقتُ الانتظارَ لا الموعد

وتقول:

عندما تحبني تكون إلهًا كاملاً
ما همّني فليكفنوك / ما دمتُ مقبرتَك أنا... / ما دمتُ قيامتَك أنا

ما يبدو لافتًا للانتباه هنا، هو استعادة هذه الإلهة، مشهدية الصلب، وكأن هذا الرجل الذي تشكل على يديها، وقالت له: كن، فكان، لا بدّ له أن يكملَ الرحلة، عبر موته، ودفنه، وقيامته ليصبح جديرًا بمعبودته.
مهما يكن، يمكن القول في نصوص رينيه، ولا سيما من خلال العبارات التي وردت أعلاه، إن السمة الأبرز في كل ذلك، هي المسارُ الآحادي الاتجاه؛ فالشعر هنا، لا يكشف شيئًا عن "الأنا" في ضعفها، وحزنها، وانكسارها، بل يتخذ دربًا يقف على حدود الأشياء من دون أن يتوغل فيها، يقف على الحدود الأولية لتشكلِ الطين قبل أن تلجَ الروح فيه.

*

أخيرًا، ها أنا أعود إلى طرح السؤال:
- ماذا يجمع شعريًّا بين رينيه ورنيم غير حروف الراء والنون والياء !
وأعود وأؤكد: لا شيء؛ فرينيه تدقّ على باب البدايات الأولى للأرض، لا للدخول إليها بل لاستدعاء ما فيها لترتيبِ حضور الإلهة الأنثى مجددًا، فيما رنيم، يجد المرء، أنها قد خلعت الباب، وعبثت بالبيت، وأزالت الجدران، وفتحت السقف على سماء لا حدود لها، وفي الوقت نفسه، لم تكن عابئة بالعواصف والمطر وسقوط ما تحمله الرياح، في أرضها.

كامل فرحان صالح

أسيل سقلاوي ، كامل صالح ، رنيم ضاهر، رينيه زوين ، مردوك الشامي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يسعدني أن أسمع رأيكم

جديد الموقع

الأكثر مشاهدة (كل الوقت)

خذ ساقيك إلى النبعخذ ساقيك إلى النبع by كامل فرحان صالح
My rating: 5 of 5 stars

ديوان «خذ ساقيك إلى النبع» للشاعر والأكاديمي اللبناني كامل فرحان صالح، صدر لدى «الهيئة العامة لقصور الثقافة» في القاهرة في العام 2013، ضمن «سلسلة آفاق عربية» الشهرية. وأتى هذا الديوان بعد عشرين سنة من صدور ديوان «كناس الكلام» للشاعر صالح، الصادر لدى دار الحداثة في بيروت في العام 1993.
يضم الديوان الجديد الذي وقع في 139 صفحة، 44 قصيدة، وقد أهداه صالح «إلى أرواح من عبروا». أما الغلاف فهو من تصميم أحمد اللباد. يعدّ «خذ ساقيك إلى النبع» الرابع لصالح، بعد « أحزان مرئية » (1985)، و« شوارع داخل الجسد » (1991). و« كناس الكلام ». كما له في الرواية: جنون الحكاية - قجدع ) (1999)، و« حب خارج البرد » (2010). وفي الدراسة: « الشعر والدين: فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي » (ط1 ــ 2004، ط2 – 2010). و" حركية الأدب وفاعليته : في الأنواع والمذاهب الأدبية " (ط1: 2017، وط2: 2018)، و" ملامح من الأدب العالمي " ( ط1: 2017، وط2: 2018)، و" في منهجية البحث العلمي " (ط1: 2018 ).
كتبت عدة دراسات وقراءات في الديوان، ويمكن الاطلاع عليها عبر موقع الشاعر، عبر الرابط الآتي:
https://kamelsaleh1969.blogspot.com/s...
ويمكن تحميل ديوان خذ ساقيك الى النبع من هنا :
https://documentcloud.adobe.com/link/...

View all my reviews