عبده خال |
«ترمي بشرر» لعبده خال .. تفضح وجع الأحلام وشغب الغرائز
يواصل فيها البحث عن الفردوس المفقود
قراءة: د. كامل فرحان صالح *
ينحاز الروائي عبده خال في روايته «ترمي بشرر» الفائزة بجائزة بوكر العربية، إلى عالم المهمشين، البسطاء.. يدخل كما في كل رواياته السابقة، إلى مفاصل حياة الفقراء، واقفا على تفاصيلهم، همومهم، مشكلاتهم، والظلم الذي يتعرضون له، أو الذي يصنعونه بأيديهم. ولا يكتفي بذلك، فيخترق في عمله الأخير عوالم البرجوازية، راسما صورة كثيفة الظلال لها وعنها، ليحقق اختراقه الأول لهذه الطبقة في مسيرة كتاباته الروائية.
خال لم يأت إلى عالم السرد من شريحة مخملية، أو من برج عاجي، كما يقال، بل دخل هذا العالم عبر بوابة الوجع الإنساني، ودهشة الرجل التعب أمام كنز وجده صدفة.درب الحياة
يحمل خال في روايته الجديدة كما في رواياته ــ «الطين، نباح، فسوق، مدن تأكل العشب، الموت يمر من هنا...» ــ تفاصيل الحياة الشاقة، وشخصيات غير مكتملة الملامح، تقتات على قارعة درب الحياة القليل من الأمل والفرح، والكثير من الألم والقهر والخوف من المستقبل. فهو ماهر في صياغة سرد الحكايات، والتغلغل عبر رواية واحدة إلى مئات الروايات، تساعده في ذلك مهارته في الإصغاء إلى الناس، كل الناس، مدققا في حادثة، وفي مثل شعبي، وفي أغنية غابرة، في حدود الأمكنة، في وظائف شخصياته، ومساراتهم، ولا يخجل من
الذهاب بعيدا في السحر وفك الطلاسم، وقول ما يريد قوله رغم فجاجته أحيانا.
الذهاب بعيدا في السحر وفك الطلاسم، وقول ما يريد قوله رغم فجاجته أحيانا.
دور البطولة
عمله الإبداعي «ترمي بشرر» الصادر عن منشورات دار الجمل في ألمانيا، يتبع خال فيه تكنيك الكولاج (أي القص واللزق) لأبطال الرواية، والزمن، فيسترجع حوادث وتواريخ غائرة في ذاكرة المجتمع، يكون لها انعكاس مباشر على شخصيات الرواية. وتلعب شخوص كثيرة دور البطولة، يربطها الراوي في تشابك العلاقات والوقوف على مفاصل التغيرات الاجتماعية، والعمرانية والسلوكية التي عصفت بهم، وأخرجتهم من أحيائهم البسيطة الهامشية لمواجهة «ما لا يستطيعون عليه صبرا».
الرواية لا تكتفي بالشخصيات المحلية، بل تتخذ من القادمين إلى المملكة عجينة مضافة لأحداث ذلك التغير القيمي للسلوكيات والأخلاق. وتغطي أحداثها الواقعة في جدة، فترة الأربعين سنة الماضية، وتنتهي مع اليوم الأول من العام الهجري الماضي.
رغبات مميتة«ترمي بشرر» حكاية مكان حجب البحر عن قرية «جهنم» أو «الحفرة»، كما يسميها أهلها الصيادون..
تتنازع شخصياتها الأحلام والهواجس، والرغبة الملحة بالسيطرة، وتدمير الآخر، عبر المال والدنس والرغبات المميتة.
هي رواية يبرز فيها بوضوح صراع الطبقات، والسعي الإنساني الأزلي العودة إلى الفردوس، الجنة التي خرج منها، غير أن الجنة والأرض والنار، رموز تحاكي تراكمات مختلفة، فليست هي هنا جنة الله تعالى، بل جنة الغريزة والاستبداد، وليست الأرض البكر التي وطأها آدم عليه السلام، بل أرض البرك الآسنة، وتكالب الناس على المال والسلطة، وليست النار الموعودة للكافرين والظالمين، بل نار الخطايا البشرية، والشر المطلق، ومتعة المستبد بعذابات الناس، وقهرهم وقتلهم، وتشويه ملامحهم.
بيت الإنسان
«ترمي بشرر» لعبده خال، وخلفها رواياته السابقة، يبدو الدخول إلى عالمها كالدخول إلى بيت الإنسان، حيث تختلف المساحات وألوان الجدران والغايات والاستعمالات، فعبر مادة أولية للوجود، يتخذ من مسارات الأحداث والحكايات الحركة واللون والمزاج.
وبقدر ما للحياة من وجوه وتضاريس، بقدر ما تمكن عبده خال أن يمعن في تشكلها بصورة أخرى معكرا انسيابها التاريخي، ويضعها أمام إطارها الجديد ـ القديم.
يبقى القول: لا يمكن تحديد بطل أوحد في رواية أو روايات عبده خال، فالأبطال كثر والحكايات لا تنتهي، فثمة ثقب كبير في الذاكرة يدلق كل ما فيها، ويجاهد عبده للسيطرة عليها وتنسيقها وترتيبها كي لا تلوث لب المحور أو لنقل المحاور، غير أنه يدعها تنساب لتحيك عوالم الدهشة، ومتعة التأمل في التفاصيل العابرة، التي لا ينتبه لها أحد في أحيان كثيرة.
يشار إلى أن لعبده خال ثمانية أعمال روائية، أعيد طبع بعضها أكثر من مرة، منها: مدن تأكل العشب، الطين، فسوق (دار الساقي)، الموت يمر من هنا، الأيام لا تخبئ أحدا، نباح (منشورات الجمل).