بحث

8 أبريل 2004

مشى في أرضٍ لا زرع فيها (تنهيدة الكامل)

اللوحة لجبران خليل جبران

كامل فرحان صالح *


إلى أرواح ِ منْ عبرُوا


قال لي: اكتب
وما أنا بصانعِ كتابة. أشربُ الدخانَ بنهمٍ، وأعملُ حتى يتعب التعب. ولا أنامُ كابن آوى، غير أني لا أصرخ في الليل. ربما أصاب بالأنين بالنعاس... بالملل، غير أنني أحاولُ أن أبقى كاملًا وصالحًا كأسماءٍ منقوشةٍ في لوح محفوظ
مرة زارني قال لي: ما تشتهي؟
قلتُ: الفرح. ثم صمت،
قلتُ: الراحة. ثم صمت،
قلتُ: النساء، ثم صمت،
قلتُ: الصحة، ثم صمت،
قلتُ: الحياة،
...

تأملني كثيرًا، وقال لا أحيي الأموات
أدركتُ أني ميتٌ، فاستيقظت
كانت الشمسُ غانيةً وأنا تعبٌ تعبٌ، لا أقوى على النظر

***

قال: اكتبْ
قلتُ: أكتبُ عن أصدقاءٍ لا أراهم لا أعرفهم
قلتُ: أكتبُ عن أصدقاءٍ في واقعٍ أثيري، تجمعُ كلماتُنا صورتَنا المحلاة باللغة، واللغةُ خيانة
قلتُ: لا أقدر
وبكيتُ وضحكتُ وبكيتُ وضحكتُ حتى إني نسيتُ متى ضحكتُ ومتى بكيتُ
وكان يتأملني
ثرثرتُ كثيرًا تلك الليلة، والقنينةُ تكبر تشبهني في النقصان وأشبهها في المشي على قوسِ قزح
وعندما شربتُ الموت شعرتُ أن ثمة «أسود» يسيرُ أمامي، التفتُ كنبيّ عاد، لكن لم أتحولْ إلى ملحٍ. رماني في النارِ، لكن لم أتحولْ إلى بردٍ وسلام. كانت تشويني، وأنا أضحكُ كنجمة
قلتُ: الأصدقاءُ ليسوا حروفًا، ليسوا لغة
قلتُ: أين هم الآن؟
قلتُ: أنا ازدادُ وحدةً، أزدادُ اتساعًا في الأنا
لا أحد يراني
قال: أراكَ فاصمتْ، وتأملني
قلتُ: لا أراكَ
امنحني عينيك. الحياةُ تذوبُ من أمامي، وأنا منسيّ هنا في أرضٍ لا زرعَ فيها. ناسُها بيضٌ وسود، وأنا رماديٌّ، وأنا زهريٌّ وأنا أخضر وأنا جنونُ الألوان

قال: اصمتْ
قلت: وهل يصمتُ من في فمِه صحراء؟

نسيَ أن يغضبَ، فضحك وضحكتُ، ونثرتُ كلامًا كثيرًا في الأثير. وغنيتُ: «تفاصيل»، و«زوروني كل سنة مرة»...

***

أنت هل تقرأني الآن؟
أنت انزعْ نعليك، وأنت تطأ المكان، ثمة نبيٌّ هنا، نسيت زوجة فرعون أن تحملَ قماطه، فتاه في النهر، وتاه، ولم يصل. حتى الفينيق الكبير لم يكنْ سوى دجّال، والفرعون لم يلحقْ أحدًا، ولم ينكشف البحر على شيء
إنّها الرؤيا، فافتحْ قلبكَ، واتبعني، فلن تصلَ إلاّ إلى الصمت
***

تعبان
أين صلاتك؟

***

قلتُ: أين أنا الآن
لم أسألْ أحدًا، وانتظرتُ. العتمةُ تتسعُ، والعينُ لا ترى سوى السؤال
انتظرتُ. كان الجلدُ يتفتقُ، والروحُ تكنسُ أيامَها
...
قلتُ: لا أقدرُ أن أثرثرَ الآن
قال: اصمتْ
قلتُ: أمهلني لألقي التحيةَ على ورود وفاطمة وأمضي
قال: أسرعْ
قلت: انتهيت، فخذني إليك

***

قال: ارفعني
قلت: يداي أرض
قال: تأملني
قلت: لا أرى سواي

مشى وفاح حديث الزعفران: «المجد لي في الأرض، وفي السماء»

***

هلع قلبي. بعثر شراييني، وفي غفلة منه ومني، دلقت دمي على صمتي ووقفت:
الأبواب كثيرة. أيهما بابي
عاد
قال: اعبرني
قلت: لا أقدام لي. فوقعت
قال: قلت اتبعني
قلت: ثمة عزيزة هنا واسمها فتحية
قال: لتأتي إذا شاءت

***

قال: افرح أيها الغبي أنا. العرس قائم وأنت تولول كالنساء، الكؤوس تفيض بالحياة، وأنت ترتع الموت. ما بك؟
قلت: الأيام تنسل كحبل الفضيحة، لا أقدر على حمل الأسرار، أنثر مساماتي كقمح ملعون، أسعى كمنبوذ، أفطر على شمس لا تضحك، وأتوسد ليلًا لا يستيقظ
قال: آلمتني اصمت
قلت: ألم ترحل؟
قال: الرحلة رحلت
قلت: إذًا، لنمكث قليلًا
قال: لا أطيق مكانًا

***

ليتني قربك أرقيك من القلق والقرف، وتنثر روحك في روحي
قال: نسيت أن تقول: قلت
وما أنا إلا قول في قول، دعك مني وأدخلني فيك أشعر بالبرد
قال: أنا أرتجف ماذا أفعل؟
قال: هذا خالد اسأله
قلت: هو الودود كطيبة السلوى، وهو الجالس على تلال النقاء كرسول بلا أخطاء
قال: افرح إذن
قلت: لا اقدر
لا... «فالفرح ليس مهنتي»

***

وقال: متعب
قلت: بل أجرّني ناحية السديم هناك حيث التلاشي

ونزلت
ونزلت. ورأيتني أعوم كجثة في سماء. لم أتنفس لغة. لم أجدل هذه الحياة لأندمَ على سيرة لم تكتب
أخذني إليه ونهرني. خلتني جبلًا لا يبرح الخروج، يشتهي تينًا وزيتونًا وقليلًا من الزيت
لملمت رغباتي المنسابة. طويت بعضي، وفي زاوية الأرض دسست «أناي»
مشيت دوني، فاض مني الفراغ
ونزلت
كانت القلوب تشتهيني لتنبض. كانت الأرواحُ سادرةً تتملاني لأكونها، لكزتها بيدي، وخرجت ثم استدركت فدخلت
وفي الوسط توقفت لم أعد من هنا ومن هناك
من في الشمال ومن في الجنوب
كنت شرقًا وغربًا وهذه الريح ليست لي
توسدت ارتباكي، ونزّ مني ظلّي
انحنيتُ
عامًا
عشرة
ثلاثين عامًا
ألف عام
ألفي عام
كنت أنحني والأيام تعيرني غبارها
جمعتُ غزلان الغابة. قلت: اخرجي عليك الأمان
منحتُ الأشجارَ جسدي

وقلت: اكتسي دفئي وأثمري

ونزلت لم أعد ما كنته. لا جسد لي لا روح لا ظل
ونزلت، ولم يعرفني. وقفت أتأمله ولم يرني. صرخت كثيرًا لم يسمعني. كان قلقًا. كان يبكي. وخلته يصلي
اتخذت صخرة. التفت إلى هديل وانتابني الهذيان
قلت: أنا أهذي، وهذا الدليل

***

آآآآآآ ه ه
ذبحتني كيوم يأبى الحضور. شمسك ذوّبتني، وما أنا إلا شمع وبخور
ابتعد قليلًا. لم أعدْ أحبك
قلتُ: وأنا كذلك
هممتُ بالغرق. شربتُ غصّتي وارتفعت. لم أعدْ أراه
نورٌ لملم شظايا الغياب
دسّ شيئًا في قلبي
كان صدري يفيض بالزبيبِ واللوزِ وحبّ الرمان
كان وجودي فيه يحررني. يهبني الهواء
كان صمتي عبره صلاة
كان أنا وكنته
لا شرايين لي لأنسى
أذكرُ الآن حبّي له، حبّه لي
أذكرُ الآن ماءَه المنساب على شعري
أذكرُ الآن قلقي عليه
تركني هنا دون اتجاه
في متاهةٍ بلا نوافذ. الاتجاهات جدران، والأرضُ خاليةٌ من رقصتي

صرختُ بما تبقى لي من لغة: أريدُ الخروج. أريدكَ فيّ
صرختُ، وصرختُ، وصرختُ
تلاشى صوتي. كنتُ صوتي. كنتُ صمتي

***

يا ورود ها هو القديس خبزُهُ جسد، ودمُهُ في الكؤوس، وفي العشاءِ الأخير نسوا أن يصلبوه

***

قال: يا سيدي ها هو البحر، وها هي السماء تنتظر عبورك
قلت: وها هو قلبي يفيض بالخروج. الأمكنة تنبذني، وليس في المكان جذع نخلة
قال: أغمضْ عينيك، وهزّ رؤيتي
قلتُ: الفراغُ بردٌ
قال: هزّ دفئي
قلت: هذا الدرب ليس لي
قال: لا حجّة عندي
قلت: هات شرايينك لأعبر هذا الوجع. هذا التعب

خلتُ نفسي حبيبًا، وخلتُ نفسي صديقًا، وخلتُ نفسي وردًا
لكن يا سيدي لم أكنْ سوى عابر في روح ينثرها، وتتلاشى
لا أحد يعرفني. لا أحد يسألني. لا أحد يمنحني شربة ماء.

هات قلبك

قال: لا ضلع لي، إنما حبرٌ وصمت
قلتُ: حتى أنت يا أنا!

***

للحظات لمحت قاسمًا
وقلت: يا قاسم لتعرف الجواب تأمل غربتي

***

قال لي بحدّة: اكتبْ. نعم اكتبْ
قلت: اللغة...
قال: لا تكمل
قلت: أثرثر كثيرًا. متى أصمت؟
قال: الرحلة جاهزة
قلتُ: والقنينة انتهت بعدما تركتُ شيئًا لنصرةِ أحمد ويُوسف، والأحبّة كُثر

***

ها هو الكامل يلملم عشبه

قال: أدخلني الآن أنا أنت. أنت أنا
وقال: عبرْتُكَ وعبرْتَني، فالحس ما تبقى واسقني
وقال: أحشائي فاضت بك. ما أشهى دفئك
وقال: أشعر بالجنة فيّ
وقال: ما حاجتي الآن للتوبة
وقال: طهرتني. طهرتني
لنصعد على جبل حرمون حيث كل شيء
وقال: ها هي الشام، وها هو الجليل، وها هو لبنان، وها هي الصحراء، وها هي الدنيا تحت عينيك
وقال: لكن النعجة أتت، ولا يد لي لأذبحك
وقال: حلمي أنت، ولم أسنّ سكينةً يومًا
لنأكل هذا الزاد، وننتظر ماذا سيفعل

***

لم يكن غير ما كان. انتزع مني حَبّ الرمّان وكمشة عطر وصلاة
وقال: الحكاية انتهت
وقال ثانية: الحكاية انتهت
وقال: انتهت

حنيتُ رأسي، وخرجتُ منه إليه. لم تكن في الجبل نخلة، ولا شجرة زيتون، ولا من يطهرني. كنت مدنّسًا بحبّه وصمته
لم أسمعه. لم أعد أتملّى عينيه، جبينه، شعره، أذنيه. نسيت ملامحه. سكنت في بيت المزاج
بلّلني الملل والتعب
كنت أحصي حبوب الدنيا وأمواتها. وفي النوم يهجرني النوم.
وأسألني: هل يجدي البكاء الآن!

***

الدربُ شوكٌ يطوقني، ومن دمي يفرّ الأصدقاء
وكان يضحك، وكان يمشي لا يرى سواه
وفي بستان يهوذا زرع أولى الخيانات
قلت: المعرفة تواضع، المعرفة تلمّس ألم الناس. ولم يسمعني
كنت مصلوبًا، ولم أنتبه
كان الشوك يعبرني. ولم أنتبه
كانت المسامير تُقبّلني. ولم أنتبه
كنت أصلي
كنت أحبهم
كنت وانتبهت
لم تكن سماء أرمي إليها يقيني. لم تكن أرض تضمّ مائي، وبطرس لم ينتظر الديك حتى ينكرني

***

قال: اخرجْ
قلتُ: ...
قال: اخرجْ
قلتُ: ...
قال: اخرجْ
قلتُ: وردتي هنا زرعتها ربيعين

ضحك عاليًا، وضحك

قال: لم تعدْ منك بل عليك. فانتقِ عطرَ أيامٍ خلت، اغرسْها في روحِك وانكسر. لملم أصص خيبتكَ، واخرجْ

التفتُّ... كأنّ العرسَ ليس لي. كأنّ الكأسَ ليس لي. كأن العمرَ ليس لي.
التفتُّ لأتسربل بغصّة.
وقبل أن...
قلتُ: الآن هات يدك.

7 آذار / 8 نيسان 2004 - 2003


* نشر هذا النص لأول مرة تحت عنوان: لا يد لي لأذبحك - تنهيد الكامل. ثم نشر بهذا العنوان لاحقًا، في كتابي: خذ ساقيك إلى النبع - الصادر في العام 2013



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يسعدني أن أسمع رأيكم

جديد الموقع

الأكثر مشاهدة (كل الوقت)

خذ ساقيك إلى النبعخذ ساقيك إلى النبع by كامل فرحان صالح
My rating: 5 of 5 stars

ديوان «خذ ساقيك إلى النبع» للشاعر والأكاديمي اللبناني كامل فرحان صالح، صدر لدى «الهيئة العامة لقصور الثقافة» في القاهرة في العام 2013، ضمن «سلسلة آفاق عربية» الشهرية. وأتى هذا الديوان بعد عشرين سنة من صدور ديوان «كناس الكلام» للشاعر صالح، الصادر لدى دار الحداثة في بيروت في العام 1993.
يضم الديوان الجديد الذي وقع في 139 صفحة، 44 قصيدة، وقد أهداه صالح «إلى أرواح من عبروا». أما الغلاف فهو من تصميم أحمد اللباد. يعدّ «خذ ساقيك إلى النبع» الرابع لصالح، بعد « أحزان مرئية » (1985)، و« شوارع داخل الجسد » (1991). و« كناس الكلام ». كما له في الرواية: جنون الحكاية - قجدع ) (1999)، و« حب خارج البرد » (2010). وفي الدراسة: « الشعر والدين: فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي » (ط1 ــ 2004، ط2 – 2010). و" حركية الأدب وفاعليته : في الأنواع والمذاهب الأدبية " (ط1: 2017، وط2: 2018)، و" ملامح من الأدب العالمي " ( ط1: 2017، وط2: 2018)، و" في منهجية البحث العلمي " (ط1: 2018 ).
كتبت عدة دراسات وقراءات في الديوان، ويمكن الاطلاع عليها عبر موقع الشاعر، عبر الرابط الآتي:
https://kamelsaleh1969.blogspot.com/s...
ويمكن تحميل ديوان خذ ساقيك الى النبع من هنا :
https://documentcloud.adobe.com/link/...

View all my reviews