سألني أحد الأصدقاء: من أنت؟
لم أشأ التسرع في الإجابة، لسبب بسيط انني للآن لم أحاول رصد سيرتي.
ربما هي عادية، وربما تهم أحدًا.. وربما تكون مشروع كتابة يتواصل أو ينقطع.
لأحاول أن أبدأ بتجرد ووضوح بلغة ليست كالشعر وليست كالسرد، لغة بوح وثرثرة وتفاصيل.
أفتح سراديب الذاكرة من السرداب الأخير، من مكان غربتي، بعيدًا عن ناسي أشيائي حميميتي بالمكان الأول.
الغربة مفتاح لأبواب كثيرة لا تحصى.. لكن منّا من يزرع العمر كله بحثًا عن الباب المناسب. ومنّا من يجد الباب أمامه خاضعًا للوطء. أما بالنسبة لي فالغربة كانت امتحانًا للصبر وكانت امتحانًا للكتابة والحنين وقسوة الهامش.
الغربة اتصال: اشتقت إليك يا أمي.
أو.. اشتقت إليك يا أبي.
أو..
اشتقت إليك يا بلدي.
والاشتياقات تنساب طوال الوقت، تهرّ كالوقت السائر نحو اللانهاية، حيث ترى الفجيعة والفرح والدهشة والخيبة في مشهدية متقاطعة.
الغربة لم تكن قاسية قاسية.. فخلالها أنهيت أطروحة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها، بعنوان: الدين والشعر: فاعلية النص الديني المقدس في الشعر العربي الحديث.
وفيها وضعت روايتي: حب خارج البرد (ابن الماء).
وفيها: واصلت كتابة الشعر وان بشكل متأخر، حيث لزمني مرور سنتين وصيف لأكتب القصيدة الأولى فيها. وهي: مقام الهجرة والوله، وخلال السنوات الأربع كتبت نحو أربع قصائد لا غير، وأقصد بذلك القصائد التي اعتبرها اكتملت بعد النحت والحذف والتعديل.
عملت في القسم الثقافي في جريدة عكاظ السعودية، ومن ثم جريدة السفير البيروتية، إلى أن تفرغت كليًّا للعمل الأكاديمي، حيث أصبحت أستاذًا في الجامعة اللبنانية - كلية الآداب.
***
صدر لي في الشعر: أحزان مرئية سنة 1985. و شوارع داخل الجسد سنة 1990 و كنّاس الكلام سنة 1993. و خذ ساقيك إلى النبع، (صدر في القاهرة) 2013.
في الرواية: جنون الحكاية سنة 2000م. و حب خارج البرد 2010.
في الدراسة: الشعر والدين: فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي (أعدت أصلا لنيل شهادة الدكتوراه) وصدرت في طبعة أولى في بيروت 2005، وطبعة ثانية في القاهرة 2010. و حركية الأدب وفاعليته (في الأنواع والمذاهب) بيروت 2017. و ملامح من الأدب العالمي، بيروت طبعة أولى 2017، وطبعة ثانية 2018.
وتحت الطبع: مقام الأنثى- شعر. ودراسة بعنوان: يوسف الخال: حياته ودعوته اللغوية. (أعدت أصلا لنيل شهادة الماجستير من الجامعة اللبنانية).
زوجتي محامية، ودخلت مجال التعليم، ورزقني الله: طارق ونور ومروان
ولدت في قرية جنوب لبنان، تقع في قلب جبل الشيخ (حرمون) تدعى: كفرشوبا في 18/1/1969. وقريتي تطل من جهة الغرب على الجليل ومن وراء الجبل على سوريا.
وحرمون جبل ورد اسمه في التوراة، ويقال إن جلجامش عندما أراد البحث عن عشبة الخلود قدم اليه (لعل عشبة الخلود هي شرش الزلوع)، ويقال أيضًا إن النبي إبراهيم عندما أراد تقديم ابنه لله أوقد النار فيه، ويقال الكثير عن هذا الجبل/ الأسطورة.
ولعل ولعي بالأساطير والبحث في الأديان مرده تراب حرمون، حيث يحضن إضافة إلى هذا كله الزيتون والتين والعنب ودوار الشمس وحكايات تقطر بالسكر والمرارة.
دمرت إسرائيل قريتي بالكامل في أواخر الستينيات.. لكن عادت إلى الحياة بعد أن تحول بيت جدّي الذي شهد صرختي الأولى، إلى لا شيء، تلال من الركام والذكريات والدموع.
***
جيلي ربيب الحرب اللبنانية، التي للآن لم نعرف حقيقة لما بدأت وكيف انتهت.
لكن ما أعيه تمامًا اننا نحن كلبنانيين دمرنا بلدنا بأيدينا. ومهما قيل عن مؤامرات خارجية فان الفاعل الأساسي هو نحن، وأذكر هنا بيتا نسيت قائله:
لا يلام الذئب في عدوانه ان يك الراعي عدو الغنم.
لم أقاتل، لم انتمِ لأي جهة سوى للبنان، كنت – إذا صحّ التعبير- "جبان"، أخاف ارتعد من صوت الرصاص والقنابل والقذائف.. فمنذ سماعي لأول طلقة أدركت معنى الموت وأصبحت أناضل لأواصل حياتي التي من الممكن أن أفقدها في أي لحظة.
عندما كبرت اكتشفت انني أميل إلى "وجع الإنسان" في أي مكان كان ولأي اثنية أو عرق انتمى، وإلزامية أن نناضل لأجل العدل على الأرض وتوزيع الثروات على من يستحقها. لا أكره الأغنياء، لكن أجد نفسي مع بساطة الفقراء.
لا أدعي انني من عشّاق الحياة لكن لا ادّعي أيضًا انني لا احبها.
الحياة عندما تنهض مع الفجر، عندما تكتب تحب ترى ابتسامة طفلك تمسح دمعة هنا تضحك هناك تصرخ تتأمل تجن .. الحياة بتفاصيلها الجميلة والعادية والمملة.
***
لمس الحب قلبي مذ كنت في الصف الخامس ابتدائي، عندما أحببت - أو هكذا توهمت - زميلتي في الصف. وأذكر أنني أهديتها حرف اسمي.
العلاقة مع الأنثى – قبل زواجي طبعًا- أشبهها بالحدث الدراماتيكي، حيث كانت تنتهي دائما بحفر ألم على طيات قلبي.
لم أكن أعي تماما المدخل المناسب لقيام علاقة ناجحة مع الطرف الآخر... كانت تفيض في كل مرة بالتوتر والمزاجية والدموع. لم يكن ثمة ما يدعو للفرح سوى لحظات الاقتراب الحميمية.
(ربما يتبع)