الدخول إلى عالم " الطين" كالدخول إلى بيت الإنسان حيث تختلف المساحات وألوان الجدران والغايات والاستعمالات، فـ"الطين" مادة أولية للوجود ، ومنه اتخذت الأرض حركتها ولونها ومزاجها .
وبقدر ما للطين من وجوه وتضاريس بقدر ما تمكن الزميل والروائي عبده خال أن يمعن في تشكلها بصورة أخرى معكراً انسيابها التاريخي ويضعها أمام إطارها الجديد / القديم . لا يمكن تحديد بطل أوحد في رواية عبده خال الصادرة عن دار الساقي بعنوان "الطين"، فالأبطال كثر والحكايات لا تنتهي فثمة ثقب كبير في الذاكرة يدلق كل ما فيها وجاهد عبده للسيطرة عليها وتنسيقها وترتيبها كي لا تلوث لب المحور أو لنقل المحاور.
هل قرأتم "روايات " في " راوية " ؟ نعم فطين عبده خال ليست رواية واحدة بل روايات وليست بطلاً محورياً بل أبطال ويمكن بشيء من الثقة القول إن كل صفحة فيها تشكل قصة وتشكل حدثاُ غير أنها لا شك متعبة ومضنية وتجعلك منساقاً خلفها كطفل سحره صوت زخات المطر على زجاج منزله .
الرواية تمتد بين عالمين يتصلان بالذاكرة ورغبة المعرفة تمتد بين الخرافة والتقاليد والعادات من جهة والعلم والبحث والمعرفة الأكاديمية من جهة أخرى بين الشعوذة واليقين .. بين القهر وتنفس الحرية المطلقة . من الممكن أن نكون بلا ظل لكن من المستحيل أن نكون بلا ماض ، بلا تشكيلات أولى بلا "طين" .
رواية عبده صراع بين " طين " يريد ان يبسط سيطرته و" ظل " لا يريد ان يلحق أحدا أو أن يخضع لرغبة حركة الشمس .. رواية يختزن فيها زمن شاسع بأيام معدودات ويختزن فيها حدث واحد بآلاف الزوايا . كيف يمكننا إيجاز "الطين" بأسطر؟ ماذا يمكن أن نقول أو أن نصف ؟ هل لنا وصف أنفسنا تناقضاتنا .. صراعاتنا .. أوجاعنا .. عشقنا كرهنا هل لنا ذلك ؟ لعبة مميتة أراد عبده خال أن يعلمنا إياها غير انه هو بدوره قرر قبل ختام " طينه" أن يسلم قيادة سرده إلى علماء نفس واجتماع وتاريخ وفيزياء وشعراء وسحرة ودجالين .. هل خاف من " ظله الضائع حقاً " فارتمى على أحضان خفة الواقع / العلم هرباً من سحر جنونه ؟ عبده خال الذي وصل إلى صفحاته الأخيرة غير مبلل بما اقترف خياله .. التفت خلفه ليجد عوالم مسحوقة وأبطالا يسقطون تدريجياً بلا رحمة .
وقف عبده على مشارف " طينه " يحاول أن ينفض يديه ولغته وذاكرته من كل شيء ، من كل هذه الكوابيس التي لا مستها الأحلام ومضت .
هي رواية ، هي " ظل " هي " طين " هي " بطل وأبطال " هي كل هذا وقليل من القلق وكثير من متعة القراءة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يسعدني أن أسمع رأيكم