الطيبات والطيبون
ماذا يعني أن نحتفيَ بصديق في زمن عزّ فيه الأصدقاء؟
ماذا يعني أن نجتمعَ حوله كنحلٍ يتفقدُ وردةً تفتّحت للتو، عابقةً بكل أسرار الحياة، والرشاقة والأناقة والحبّ؟
ماذا يعني أن نحتفي بوجيه فانوس...
هو وجيه فانوس... لكنه لا يضيء في هذه الجمهورية سوى قلوبنا.
هو وجيه... يخوضُ حروبًا لجبر الخواطر، ومدِّ جسور الياسمين، ولغةِ الله.
قلبه كلّ الكرة الأرضية، صمته قمرٌ يتأملُ تفاصيلَ الهواء، وحركاتِ الناس في زحمةِ البنِّ والدخانِ والضحكاتِ العابرة.
هو عاشقٌ كلّ يوم، بل كلّ لحظة... بل لا يكون إلا في كونِه كذلك.
يعجنُ خبزَ الأيام ببسمةٍ. يجتاحك بعريشةِ التواضع وبصباحِ النور.
نادرًا ما يزعل، وأشكّ في أن له أعداء.
في منتصف الثمنينات، شاهدته يشرح لنحو 200 طالب في كلية الآداب في بيروت، قصيدة "بانت سعاد" لكعب بن زهير، ويومذاك قررت أن أتركَ اختصاصَ هندسة الكهرباء، والانتقال كليًّا، إلى عالمِ اللغة والأدب.
يومذاك، وكنتُ أجلسُ على الأرض، لعدمِ وجودِ مقاعد كافية في الصفّ، قررتُ أن أقفَ وقفةَ أستاذي وجيه في المستقبل، وأن أصبح أستاذًا جامعيًّا.
لا أذكر أستاذي وجيه، إلا وتستعيدُ الذاكرة أسلوبَه المحبب، والشيق لدروس الأدب؛ فلنتخيل كيف تحول مطلع بيت الشاعر المخضرم كعب الطللي:
بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مَكْبولُ
فالبين له معنيان: الظهور أو الابتعاد والرحيل، ويفهم من السياق المقصود، وهنا المقصود هو رحيلُ الحبيبة، الذي سبّب سقمًا لقلب الشاعر؛
فتبَل الحُبُّ فلانًا: أسقمه، وذهب بعَقْله. ويمكن هنا أن نستند إلى لهجتنا العامية، إذ نقول: متبل باذنجان، ولا يصبح كذلك، إلا بعد تقطيعه وهرسه وتتبيله، وهكذا حال قلب الشاعر، الذي تغير من حال إلى حال، بعد رحيل الحبيبة...
هكذا أصبحت النصوصُ القديمةُ الصعبةُ، سهلةً ومفهومةً وقريبةً من واقعنا، عبر شرحِه السهل الممتنع، وابتسامتِه الدائمة، ورشاقةِ أسلوبِه، وتواضعِه.
التقينا مجددًا، مع "حي بن يقظان" لابن طفيل، و"روبنسون كروزو" لدانييل ديفو، وأذكر أنه طرحَ في امتحانٍ، سؤالاً ضمن أسئلةٍ أخرى، هو:
جاء على لسان النبي سليمان الحكيم:
"لا جديد تحت الشمس"، ناقش وحلل.
لا أخفيكم مدى صدمةِ الطلابِ يومذاك، من السؤال. لكنني أدركتُ لاحقًا، ومن العلامة العالية التي حصلت عليها، أن الدكتور وجيه، كان يريد أن يدفع الطلاب إلى سلوكِ التفكرِ والتحليلِ والمقارنةِ، بعيدًا من أسلوبِ الإجابات الجاهزة والمعلّبة التي لا تصنع سوى جيلٍ يحفظُ كالببغاء، ويكررُ المعلوماتِ نفسَها، فيخافُ من الإضافة، والإضافة تعني أن يستقلَّ شيئًا فشيئًا بتفكيره، ذاك التفكير الذي يمهدُ الدربَ أمام الابداعِ والتفوقِ والتقدم.
لم أفارق وجيه؛ فقد واكبني بعد سنوات الإجازة، عبر إشرافِه على رسالة الدبلوم عن "يوسف الخال ودعوته اللغوية"، وأيام غربتي الطويلة، وقّعنا ميثاقَ الصداقة الفاعلة، إذ واكبني عند إعدادي أطروحة الدكتوراه عن "فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي الحديث".
ولعل الأثر الأكبر الذي تركه في قلبي، قبل الرسالةِ والأطروحةِ، هو أن يحضرَ أول أمسيةٍ شعريّةٍ لي، وقد كانت في "كنيسة مار بطرس وبولس" في الحمرا، وبعد ذلك بسنوات، شاركني أيضًا، مع زوجته العزيزة إيمان، فرحتي في الانتقال إلى القفص الذهبي.
لوجيه فانوس كبيرُ الأثرِ في مسيرتي الأكاديمية، وإلى ما وصلتُ إليه اليوم.
وما زلت أتعلم منه من خلال جلوسي إلى جانبِه، في مناقشةِ الرسائل والأطاريح، وفي دعمي وتقديم النصيحة والرأي عند استشارته بمسألة ما.
ولعلّ أهمَّ ما تعلمتُ منه، هو كيفيةُ الاهتمامِ بطلابي، ومساعدتِهم، والوقوفِ إلى جانبِهم، كما اهتم بي، وساعدني، ووقف – ولا يزال – إلى جانبي.
وجيه فانوس
الحكيم والأب والأخ والصديق والإنسان الذي يفيضُ بالحياةِ الكثيرة.
لا يسعني إلا أن أقول لك: شكرًا
شكرًا لأنك ساهمت بإعدادي إعدادًا أكاديميًّا صالحًا، وها أنا أقف اليوم، أقرأ كلمةً في الأستاذ والصديق بين نخبة من المثقفين والأكاديميين والأصدقاء.
شكرًا لأنك بعد غربتي التي امتدت نحو عشرِ سنوات، أعدتني إلى بيروت، وإلى العملِ الأكاديمي، وقد واكبت تدرجي، وانتقالي من رتبةٍ إلى رتبةٍ بكل الحبِّ والرعايةِ والاهتمام.
شكرًا لأنك عرفّتني وتعرفُني إلى أصدقاءٍ طيبين مثلك...
وشكرًا أولا وأخيرًا، لأنك في هذا الـ"لبنان" الموزّع بين الألوان والأرقام، لم تتلوث بأيّ رقم، ولم ترتدِ إلا لونَ المحبة والتسامح والتواضع والكلمة الطيبة؛ وقد بقيتَ تحملُ لبنانَ الطيبَ في روحِك، لتُهدينا إيّاه أملاً وفرحًا في كلّ مرةٍ نبلغ فيها حدّ اليأس والإحباط.
وجيه شكرًا...
والشكر موصول لمنظم هذا الاحتفاء، الشاعر الصديق نعيم تلحوق، لروحِه التي تقطرُ زيتًا مقدسًا، وإلى بسمتِه الفائضة بالعسل.
والشكر لكلّ الأحبّةِ والأصدقاء فردًا فردًا الذين يشاركوننا اليوم، الاحتفاء بالعريس والغالي وجيه فانوس.
كامل فرحان صالح
بيروت في 20/ 11/ 2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يسعدني أن أسمع رأيكم