كامل فرحان صالح
جريدة النهار - 8 حزيران 2016
ليس التفاوت الواضح بين قصيدة وأخرى، في ديوان انعام فقيه الأول، "تركت بعلبك وما هلكت"، سوى انعكاس لجدلية الخروج/ الدخول، أو النجاة/ الهلاك، المعبّر عنها في عنوان المجموعة، وقد أكملت الشاعرة في الاهداء الموجّه إلى والدها، ما سقط من العنوان، لتقول: "تركت بعلبك وما نجوت بعدها وما هلكت" (ص 5).
إن سيمائية العنوان المرتكزة على فعل بدئي: "تركت"، وفعل ختامي "هلكت"، تتمدد على مساحة عميقة من رمزية دينية/ أسطورية، تدفع القارئ إلى أن يطرح مجموعة تساؤلات تبدأ بـ"كيف؟"، وصولاً إلى"لماذا؟"، مرورًا بسؤال "ماذا حدث؟"، بدلا من أن يستكين المتلقي للعنوان، ويطمئن إلى فهم حركية الفعل النشط الأول (تركت)، وهو قد حدث في الماضي، وانتهى، والفعل الذي مُنع حدوثه في الصيغة النافية "ما هلكت". أما امكان وقوعه فعلاً، فيبقى واردا في يوم ما، إذ إن هلاك الإنسان مسألة حتمية.
إن فعل "الـترك" إرادي، يعاكسفعل "الطرد" اللاإرادي، ما يعني أن الشاعرة تركت بعلبك طواعيةً، ذاك المكان السامي بأبعاده الأسطورية والتاريخية، أما فعل "هلك"، فغير إرادي، يعاكس فعل "انتحرت" مثلاً، الإرادي. يجد المتلقي نفسه، أمام حركيتين: الأولى إرادية تلحظ تغير الوضع القائم، والثانية غير إرادية تلحظ حتمية الفناء مهما تغير الوضع الأول القائم. ولعل اللجوء إلى استخدام ما النافية، في مستوى من مستويات الاستخدام اللغوي، هو كمن ينفي البلل عنه، فيما هو غارق في الماء. يدعم هذا التوجه، استدراك الشاعرة في الاهداء ما قد سقط في العنوان، وهو جملة: "وما نجوت بعدها"، ما يعني أن مسيرة الخروج قد تضمنت غير مواجهة مع الموت، الموت الناتج من خسارة المكان الأول (بعلبك)، والخروج إلى المدينة/ المكان المفتوح على خسارات متتالية، وتجارب مع أفعال النجاة، لم تكن هلاكًا حتميًّا، إلا أنها في العمق، لم تعد ذاك المكان الحضن الآمن والثابت والمستقر.
يمكن الإشارة إلى جنة المكان الأول (بعلبك) الذي تركته الشاعرة، عبر ما يرد في معظم قصائد الديوان من كلمات ومصطلحات وإحالات، منها: العاصي، النبع، المصب، شراب الجلاب وزهور قمر الدين، (ص 7)، مجراك، نواعيري، القرى، ضفاف أنهارها، الخرير، روافد (8)، عين زرقاء، منسوبك، المواشي (9)، نذورك، طواحين (10)، لبن السمن الأصلي (11)، صفصاف النهر، ثمارهن (15)، بعلبكي الصهيل، سهل رغبات وقطعان، رأس العين، السنابل (21)، الصلاة، معابد، الريح، الراعي، العشب، الدفء والأمان، الحب، الغناء، الطيبة (22)، حجر، الإرث (23)...
يقابل هذه "الجنة"، المدينة، وهو المكان المفتوح على عدم النجاة، وعدم الهلاك في الوقت نفسه. مساحة دلالات هذا المكان هي الأكثر في الديوان، إذ يدخل المكان الأول في دائرة الحنين والشجن، أما المكان الآخر، فهو دائرة الحاضر الحالي والمستمر، ويعجّ بالمصطلحات والدلالات والإشارات الضمنية المعبّرة عنه، ومنها: العاريات، الفقر، حذاء بال (ص 14)، النحيب، الفجيعة، النزوح، (18)، حزام البؤس (23)، خذلان، خيبة، اعصار، الأسود (24)، الأخطاء، سئمت (26)، مقام الوحدة (59)، العاهرة (75)، البحر، أنانية (76)، عاقرات، مخصيون (77)...
إن الخلاص من أثر الجنة، مستحيل، وقبول المكان الجديد مستحيل أيضًا، وبين استحالتين تفرش الشاعرة ورقها الملطخ بالتعب، والقهر، والذكريات، والصبر، والتأمل، والمرارات المسكوبة في كل خطوة تسلكها خارج المكان/الجنة.
هذه السيميائية العالية الناضحة من العنوان، والمنتشرة داخل قصائد الديوان، تدفع المتلقي إلى الولوج في عمق اللاوعي الإنساني البدائي، حيث تستقر في باطن كلٍ إنسان، جنة آدم وحواء، ذاك المكان الأول الذي يحاكي بعلبك في لاوعي الشاعرة. لذا، تصبح الجنة هي بعلبك، وما خارجها، هو الجحيم، والشقاء، والعقاب، أي الأرض.
العلامة الفارقة بين مساري خروج آدم وحواء من الجنة، وخروج الشاعرة من بعلبك، أن الأول جاء بفعل الطرد الناجم من غضب الله على مخالفة أوامره، فيما المسار الآخر، ناجم عن فعل إرادي للشاعرة. لكن المسارين يلتقيان في حصد النتائج: الهلاك، الخيبات المتتالية، الشقاء اليومي، الخوف، القلق، الحروب، الهم، واللهاث المستمر بحثًا عن لقمة العيش. بذلك يصبح المكان البديل في الحال الأولى، الأرض كلّها، أما المكان البديل في الحال الأخرى، فهو بيروت.
تقول الشاعرة في قصيدة "سيدة الفراغ" (ص 131، 132):
"المكان/ وقد فرغَ بالسفر، بالخلافات، بالموت، بالنهايات.../ ممتلئ بكِ وحدكِ/ سيدة الفراغ/ أنت الآن سيدة الفراغ/ هل أشبعَ شهوةَ المُلك/ صاحبُ المُلكِ/ والإله الذي في داخلك؟/ مسجّاة بلا كفنٍ/ مُلكُكِ نعشكِ/ كيدين فرغتا للتوِّ من العناق/ كم عانقتِ/ وكم فرغت يداك!".
توجز الشاعرة في هذه القصيدة حكاية خروجها، وقد أصبح المكان/ المدينة هو هي. المدينة تلك الحركة الدؤوبة على إنتاج المرارات، والخيبات، والضجيج، والوحدة، والفراغ، واللقاءات والوداع؛ المدينة ذاك المكان الذي يرتقي ليصبح نعشًا يكبر في جسد الشاعرة وروحها، كلما أوغلت في "ترك" المكان الأول نحو الفراغ /الهلاك المحتوم.
تتمكن الشاعرة إنعام فقيه في ديوانها البكر هذا من أن ترسم دربًا خاصًا بها، معجمًا لغويًّا يخصّها، وصورًا شعرية تمثل إضافة نوعية في بناء القصيدة العربية الحديثة، ولا يبالغ المرء إذا قال إن هذه الشاعرة ستدهشنا أكثر في الأيام المقبلة.