بحث

28 فبراير 2009

الشاعر كامل صالح: القلق طاقة عظيمة للإبداع مقروناً بالسؤال العارف

"فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي" أطروحته للدكتوراه

حاوره: وليد علاء الدين

حصل الشاعر والروائي الناقد اللبناني كامل فرحان صالح اخيراً على درجة الدكتوراه عن أطروحته المثيرة للجدل “الشعر والدين، فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي”، التي استعرض فيها للعلاقة بين الديني والشعري في الشعر العربي منذ ما قبل الإسلام وحتى الشعر العربي المعاصر، وخلص منها إلى أن الدين والشعر كانا في العصور القديمة ضمن إطار واحد، فالنص الديني هو نص شعري، والعكس صحيح، لكن ظهور الإسلام، أدى إلى الفصل بينهما، وسلط الضوء على نتائج ذلك الفصل في الشكل والمضمون، ومحاولات الخروج عليه والأشكال التي أسفرت عنه
ا تلك المحاولات قديماً وحديثاً. ويرى كامل صالح أن كل تحركات الشعر العربي صعوداً وهبوطاً خرجت من ذلك الفصل، كانشغال الشعر بالكشف والرؤيا والاستشراف، واتساع مساحة ال(أنا) لتكون ال(نحن)، وتوحد دور الشاعر مع دور النبي، وذلك الاتكاء الحاد على النص الديني لتحويره كي يوافق خطاب الشاعر في لباس النبي وموقفه ومفهومه. مشيراً إلى محاولات بدر شاكر السياب وأمل دنقل وخليل حاوي ويوسف الخال وأدونيس وغيرهم. مؤكداً أن الدائرة التي انقطعت عادت لتتصل بين النصين الديني والشعري. بالإضافة إلى انشغالاته البحثية يمارس كامل صالح العمل الصحافي، والكتابة الإبداعية وله في الشعر: “أحزان مرئية” دار الحداثة ،1985 “شوارع داخل الجسد” دار الهيثم ،1991 و”كنّاس الكلام”- دار الحداثة ،1993 وفي الرواية: “جنون الحكاية”. دار الحداثة- ،2000 وله تحت الطبع : مقام الأنثى شعر، هنا حوار معه حول أطروحته الأخيرة وتجربته في الشعر والرواية:
تطرقت في أطروحتك لنيل درجة الدكتوراه إلى فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي، واستعرضت العلاقة بين الديني والشعري في الشعر العربي منذ ما قبل الإسلام وحتى الشعر العربي المعاصر، هل يمكن تلخيص أهم النتائج التي توصلت إليها خلال تلك الدراسة؟
- بإيجاز شديد، يمكن القول إن الدين والشعر كانا في العصور القديمة ضمن إطار واحد، فالنص الديني هو نص شعري، والعكس صحيح، لكن مع ظهور الإسلام، أدى هذا إلى الفصل الحاد، والمؤلم إذا صح التعبير- بينهما، والسبب هو ما أثير وقتئذ من تشبيه النص القرآني بالنص الشعري. هذا الوضع الجديد، أدى إلى بتّ “إلهي” عاجل ونهائي بين النصين، وهذا رتّب فيما بعد، إلى وضع قيود محكمة التطويق حول كتابة النص الشعري، وذلك كي لا يقارب أو يشابه أو يحاكي النص القرآني، وقد أوسع مفسرو القرآن الهوة بينهما لاحقا ساعين بشتى الوسائل لترسيخ عملية الفصل، التي كان الهدف منها تنميط القصيدة العربية وفق قوالب محددة لا تخرج عنها. هذا الوضع استمر. لكن أيام الدولة العباسية برزت محاولات مشرقة للخروج عن القالب المتوارث، وقد تمكن عدد من الشعراء التقدم بوثوق في بث روح جديدة في الشعر على الرغم من محافظة هؤلاء الشعراء على الجسد الخارجي للقصيدة، وبدخول العالم العربي في نفق ما يسمى عصر الانحطاط أصيبت القصيدة العربية بالترهل في الروح والجسد، ومع إطلالة عصر النهضة والصدمة العنيفة التي وقعت بالتقاء العالم العربي بالآخر الأجنبي، بدأت تطرح الأسئلة الكبرى والمؤلمة، التي دفعت بتشكيل تيارات ثلاثة، يمكن إيجازها: بالتيار التوفيقي، والتيار السلفي، والتيار التغريبي. وهذه التيارات ما زالت تواصل دورها بشكل أو بآخر إلى وقتنا الحاضر. لكن، ما يدعو للانتباه هنا، أن الصلة التي شارفت على الانقطاع بين النص الديني والشعري، عادت الى توهجها مع الشعراء العرب المعاصرين، وإن كان هذا التوهج أخذ دربا مغايرا لما كان في الأساس. فأصبح الشعر يتمتع بحيز الكشف والرؤيا والاستشراف معبرا عن الذات الإنسانية ومتخذا من الأنا دربا للصعود نحو الأعلى، ويمكنك أن تلمس في بعض النصوص اتساعا لهذه الأنا لتكون النحن، كما أصبح بإمكان المرء ملاحظة توحد دور الشاعر مع دور النبي، وذلك عبر اتكائه الحاد على النص الديني لتحويره كي يوافق خطابه وموقفه ومفهومه هو. وهذا يمكن أن نجده مثلا في شعر بدر شاكر السياب وأمل دنقل وخليل حاوي ويوسف الخال وأدونيس وغيرهم. وبالتالي يمكن القول إن الدائرة التي انقطعت عادت لتتصل بين النصين الديني والشعري. ومما لا شك فيه، إن متابعة هذا البحث تحتاج الى دراسات أخرى كثيرة، وأعتقد أن ما فعلته أنا في بحثي هو مجرد إلقاء حصى صغيرة في نهر. وأنتهزها فرصة لأدعو الباحثين وطلاب الدراسات العليا للخوض في هذه العلاقة ودراسة كل جزء منها ببحث منفصل، على أن يصار لاحقا إلى تحليل مفصل لكل هذا.
“أحزان مرئية”، “شوارع داخل الجسد”، “كنّاس الكلام” دواوينك الثلاثة المنشورة، المتابع لنصوصك الشعرية يرى تطورا في الشكل، إلا أنه يدرك أن فكرة القصيدة هي انشغالك الأول، ما مدى صحة ذلك، وما دواعي الكتابة في رأيك وكيف تكتب بعد أن تقتنص الفكرة، وماذا عن القلق بصدد الشكل/الفورم الذي هو القصيدة؟
- لم يكن شكل القصيدة ليسبب لي هاجسا يوما، الشكل لا معنى له في قصيدتي، أو بمعنى أدق في القصيدة/الإنسان. إن الصراع القديم بين الشكل والمضمون، بين الخارج والداخل، بات لا يعني شيئا في الكتابة الشعرية الآن برأيي، فأنت تكتب أفكارك هواجسك أحلامك خيباتك إنسانيتك عصرك مستقبلك، وهذه الكتابة تأخذ روحها وجسدها في الحضور من دون فاصل، أنت تكتب، إذًا، أنت تخلق الحياة الكلية بين يديك وفق عناصرها كافة: اللغة الموضوع الصياغة النظام الدال والمدلول. وبمعنى آخر فان ما يمكن أن يسمى تطورا يكمن في الكتابة نفسها وليس في الشكل أبدًا، بحيث أصبح كامل صالح يعي أن الشعر هو بث هائل من الاشعاعات في حيز كلامي قليل ونادر، فالتكثيف هو ما يمكن لك أن تتعلمه باستمرار، حيث الثرثرة المجانية بالتأكيد تقتل مقصدك. وأنت في استمراريتك تتعلم باضطراد كيفية الصمت، وصولا الى المقولة المعلومة: كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤيا. فهذا الخيط بقدر وضوحه إلا أنه حسّاس جدا، كالخيط الأبيض والأسود للصائم، إذ غياب الإدراك وصوابية القرار فيه تفقدك عملك الصالح كله. الحياة علمتني ألا أقول ما أريده آنيًا، وبالمقابل علمتني أن أقول ما لا أريده كي يصبح ممكنا لما أريده دائمًا، هذه الثنائية ترميك في حيز التوتر والتساؤل والقلق والرعشة من لمس الكلمة التي ستكتبها الآن أو فيما بعد، إذ لم يعد مسموحا لك أن تنتهك عذرية اللغة بمجانية، وأن تتسولها بانهزامية سخيفة ومفرطة، عليك أن تسقط على اللغة/ الكلمة كأنها هي آخر أمل لك في العيش لثانية أخرى، وعليك أن تنتقي الحروف لتصيغ خاتمك السحري الوحيد. لا أقتنص فكرة لأكتب، ولا أكتب لأن فكرة ما طرأت على مزاجي، أكتب كما أسلفت- بكلّي، فأنا النظام وأنا المرسل والمرسل إليه، فإن لم أستطع أن أكون هذه العناصر في لحظة واحدة لا أقدر أن اشرع في الكتابة، وبعد حضورها والذهاب في درب الخلق، ليس يعني أن المولود سيسعدني دائما، فتراني أواصل عمليات التقويم له إلى ما لا نهاية، وما النشر إلا نافذة خلاص لي وله كي تركن روحي قليلا بانتظار مولود آخر أمارس عليه ويمارس عليّ السادية المتبادلة.
“جنون الحكاية” عملك الروائي الصادر عن دار الحداثة عام ،2000 تعاملت خلاله مع الأيديولوجي والأسطوري والسياسي في حس يمزج بين السخرية والمرارة، هل لذلك علاقة بنشأتك في الجنوب اللبناني وتحديداً في قرية (كفرشوبا) في جبل الشيخ، التي دمرها العدو “الإسرائيلي” في نهاية الستينات من القرن الفائت؟ في هذا الإطار هل ترى أن الرواية العربية استطاعت أن ترقى إلى مستوى الحدث العربي، وهل ترى أن هذه التركيبة هي الأصلح للتعامل مع قصة ذات أهمية مثل بيروت التي احتضنت جروحها بجروحك في نصك الروائي؟
- ليس مطلوبا أن ترقى الرواية إلى مستوى الحدث الواقعي/ الحقيقي، بل مسعاها المأمول أن ترقى إلى مستوى الحدث الذي خلقته هي حقيقيا كان أم لا. فالرواية عندما تتوسد “الحدث الواقعي” لا يصبح معها كما هو في الأصل، لأنه تحول إلى لغة، واللغة حمّالة أوجه، ولغة الرواية تختزل في هذا السياق حواسك كلها، بحيث تصبح العين والأذن والشم واللمس والتذوق، ومن خلال هذه العناصر التي تحولت إلى لغة عليك أن تعيد حساباتك في الإدراك والركون إلى ما تخاله حقيقة. بالمقابل لست مخولا للحديث عن الرواية العربية أو تقويمها أو إبداء رأيي فيها، فهذه مجالها البحث الأكاديمي والتحليل والمقاربات النقدية، وقد تمكن النقاد العرب بشكل ما إلى فعل ذلك، وهم يواصلون عملهم بدأب مستمر. أما فيما يخصني فانه يمكن أن أحيل السؤال إلى أشخاص آخرين يمكنهم الحكم على روايتي وفق السياق الذي يرتؤونه. لكن في مسألة بيروت والوجع الجنوبي اللبناني، فإني باختصار لم أسع في روايتي إلى الحديث عنهما إلا وفق النظام الذي تمحورت الرواية حوله، وبمعنى أصدق، لم يكن همي أن أحضرهما في الرواية إلا وفق أهداف واضحة محددة موظفة لحياة في لغة الرواية نفسها ولا تخرج عنها إلا كدلالة ما ربما تعني شيئا خارجها أو لا.
والرواية باختزال شديد: تبدأ نهار اجتياح “إسرائيل” لبيروت، ومن هنا يكون الحلم في الحقيقة كابوسا، ومن هنا يرتبط سقوط بيروت أمام الدبابة “الإسرائيلية”، بسقوط المقدس في حياتنا، بنهاية الطيبة والمحبة والموعظة الحسنة، وبالتالي موت الحقيقة والإنسان، وإذ تنتهي الأسطورة تتحول إلى غيمه تضم الرواية كاملة، فينتقل قجدع / الإله من مكانه ليصبح كاتباً، وهو في الوقت نفسه يقبع في أعماق الشخصية المحورية في الرواية، ألا وهو طارق المهموم، وهو الذي حلم بقجدع أيضاً، سيد الكون الجديد. لكن المفارقة تكمن بأن هذا السيد العظيم ما هو في الواقع إلا غاسل سيارات في محطة بنزين، وبين هذه الهوة الشاسعة بين الأعلى/السماء، والأسفل / الأرض، تدور الرواية، ويستمر الجنون، اللاسياق ليتخربط كل شيء وفي الوقت نفسه ندرك أن البدايات دائما تهدم لتبني نفسها هي لكن هنا لا نجد إلا أناسا مليئين بالمشاكل النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا الانهيار في البلد أدى بالتالي إلى سهولة وصول “إسرائيل” إلى قلب أول عاصمة عربية. وبالتالي أود أن أقول بكل بساطة إن “إسرائيل” ليست الموجودة هناك، في فلسطين، بل هي موجودة في كل واحد منا، لذا لم نستطع أن نهزمها، وما الإشارة الأخيرة في الرواية التي تنقسم إلى قسمين: المطالبة بدفع مال المستشفى، وهروب القجدعي مع ناديا من وجه قجدع، إلا إشارة واضحة إلى التناقض الذي يعيشه الإنسان منا: فمن جهة المال أصبح هو السيد الجديد الذي لا مهرب من أمامه... ومن جهة أخرى ثمة إنسان فينا يرفض كل هذا الجنون وهذا القمع وهذه المزاجية من قبل السيد الأوحد، ليبحث عن مكان يستطيع أن يحلم فيه يعيش فيه ويستمر فيه من دون مراقبة من أحد.
كانت رسالتك التي حصلت بها على درجة الماجستير من الجامعة اللبنانية دراسة بعنوان “يوسف الخال: حياته ودعوته اللغوية”، ولك كتابات نقدية منشورة في الصحافة العربية، إلى أي مدى ترى أن النقد العربي استطاع أن يمتلك أدواته، وهل استطاع أن يلاحق الحركة المتسارعة وغير المنضبطة للقصيدة العربية المعاصرة؟
- في رأيي، لا يمكنك فرض منهج نقدي على قصيدة ما من دون مراعاة خصوصية القصيدة نفسها، بحيث يسهم النص الشعري بمنحك مفاتيح ولوجه، والمأمول هو مدى قدرتك التوافقية بين ما تنطلق منه كناقد وبين ما تريد الوصول إليه من هذا النص الشعري. النقد العربي يمتلك أدواته وقد أسهمت الترجمة والإطلاع على عطاءات الآخر/الأجنبي في صقل هذه الأدوات باستمرار، والخريطة النقدية العربية تضم رجالا ونساء أبلوا بلاء حسنا في هذا المضمار. لكن أزمتنا ليست في مدى قدرة النقد على ملاحقة الحركة المتسارعة للقصيدة، بقدر ما هي في الحقيقة أزمة اعتراف وقبول بهذه الحركة نفسها، ويمكن للمتابع أن يلاحظ هذه الهوة بين قطبي النقد والشعر من جهة وبين المتلقي والشعر من جهة أخرى، فالمفصل الحقيقي هو لكي أهتم بشأن النقد الذي يأتي تاليا، من المنطق أن أهتم بالأصل أولاً وهو الشعر نفسه، إذ ما فائدة النقد إذا كان ما ينقده غير معترف به في الواقع؟ أعتقد أن الإشكالية تكمن هنا، وبالتالي فإن المسعى المطلوب هو العمل على ردم هوة الجفاء بين الشعر والآخر المتلقي، بحيث القبول المبدئي هنا يسهم بشكل فاعل ببروز نقد ذي صيغة نشطة ومتميزة في مرحلة لاحقة أو متوازية.
2005, 06, 13- Monday الخليج الامارتية للرد أو التعليق على أي نص ينشر في موقع "الخليج" في المجالات كافة: alkhaleej@alkhaleej.ae

هناك تعليقان (2):

  1. مبروك الدكتوراه كامل
    هل ان اعرف دار الناشر لاقتنيها
    دمت بابداع
    وفاء الحمري
    ع.الذوذة
    وردة

    ردحذف
  2. استدراك
    اقصد كتاب بحث الدكتوراه لو طبعته يا كامل
    وفاء الحمري

    ردحذف

يسعدني أن أسمع رأيكم

جديد الموقع

الأكثر مشاهدة (كل الوقت)

خذ ساقيك إلى النبعخذ ساقيك إلى النبع by كامل فرحان صالح
My rating: 5 of 5 stars

ديوان «خذ ساقيك إلى النبع» للشاعر والأكاديمي اللبناني كامل فرحان صالح، صدر لدى «الهيئة العامة لقصور الثقافة» في القاهرة في العام 2013، ضمن «سلسلة آفاق عربية» الشهرية. وأتى هذا الديوان بعد عشرين سنة من صدور ديوان «كناس الكلام» للشاعر صالح، الصادر لدى دار الحداثة في بيروت في العام 1993.
يضم الديوان الجديد الذي وقع في 139 صفحة، 44 قصيدة، وقد أهداه صالح «إلى أرواح من عبروا». أما الغلاف فهو من تصميم أحمد اللباد. يعدّ «خذ ساقيك إلى النبع» الرابع لصالح، بعد « أحزان مرئية » (1985)، و« شوارع داخل الجسد » (1991). و« كناس الكلام ». كما له في الرواية: جنون الحكاية - قجدع ) (1999)، و« حب خارج البرد » (2010). وفي الدراسة: « الشعر والدين: فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي » (ط1 ــ 2004، ط2 – 2010). و" حركية الأدب وفاعليته : في الأنواع والمذاهب الأدبية " (ط1: 2017، وط2: 2018)، و" ملامح من الأدب العالمي " ( ط1: 2017، وط2: 2018)، و" في منهجية البحث العلمي " (ط1: 2018 ).
كتبت عدة دراسات وقراءات في الديوان، ويمكن الاطلاع عليها عبر موقع الشاعر، عبر الرابط الآتي:
https://kamelsaleh1969.blogspot.com/s...
ويمكن تحميل ديوان خذ ساقيك الى النبع من هنا :
https://documentcloud.adobe.com/link/...

View all my reviews