بحث

‏إظهار الرسائل ذات التسميات قراءات. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قراءات. إظهار كافة الرسائل

28 فبراير 2009

الروائي العربي... بين تسلط "الأنا" وامتحان "الآخر"



الآخر في الرواية العربية: "أنا" الروائي و"شخصياته"



د. كامل فرحان صالح*

"لا أعرف نفسي تماما
لئلا أضيّعها
وأنا ما أنا
وأنا آخري في ثنائية
تتناغم بين الكلام وبين الإشارة"
محمود درويش – "كزهر اللوز أو أبعد" – دار رياض الريس – بيروت (ص184)

تستوي "الأنا" في الحضور والتشكل من خلال "آخر"، فادراك "آخر" يتموضع في مركزية "الأنا" التي هي "آخر" بدورها في مشهدية متكاملة لطرف خارج هذه الثنائية.
ليكون "آخر" لا بد من "أنا" ولتكون "أنا" لا بد من "آخر". ولعل التشبيه الأقرب لهذه الثنائية المحكومة بالاتصال، العملة الواحدة ذات الوجهين.
لكن هذه المسألة الدقيقة لا يمكن الركون إليها بأي حال من الأحوال، واعتبارها مسلّمة نهائية أو قاعدة قابلة لتكون صحيحة دائما. فعند اتساع الدائرة لكل طرف من هذه الثنائية يلاحظ حضور "أنا" متعددة كذلك "آخر" متعدد، وتصبح بذلك "الأنا" و"الآخر" في دائرة "الأنا" الواحدة.
إذا سعى المرء لملاحظة هذا بشكل ما، يمكنه أن يتلمس ذلك بعمل روائي، إذ المؤلف هو "الأنا" المركزية وروايته بما تتضمن من شخصيات متقابلة ومتصارعة هي "آخر" من خلاله.
"أنا" الروائي كليّة الاستبداد بـ "الآخر" التي تخلقه، فهو وليدها ولا يمكن لهذا "الآخر" التصرف أو التحكم بمصيره دون "أنا" الروائي المسيطرة بالمطلق، وبالتالي فان "الأنا" هي الغالبة بشكل حتمي في المعادلة الروائية.
هذا المستوى من المقاربة للروائي وعمله يمكن ملامسته على أكثر من مستوى في الواقع امتدادًا إلى الحضور التاريخي للإنسان.
لكن، وبعيدًا عن ذلك، فان الحكم على نجاح الروائي و"أناه" الكلية الحضور في عمله، يبقى معلقًا على مقدرة هذه "الأنا" بافساحها مساحة لتموضع "الآخر" – أي الشخصية الروائية – فيها، وإظهار اختلافاتها وهواجسها وقلقها وإنسانيتها بطبيعة الحال، وكلما كان الإفساح متسعًا جاء "الآخر" من خلال "الأنا" الكلية للروائي، مقنعًا، وبالتالي ناجحًا إذا صح التعبير.
هل ""أنا" الروائي تتماثل مع ما يسمى "الانفصام بالشخصية"؟
سؤال يجد مسوغه في مقاربة الأنا والآخر الخاصتين بالروائي وروايته. فبرضا ما يجد المتابع نفسه ملزمًا بالاقتناع أن الروائي الناجح عليه أن يكون "انفصاميًا"، إنما هذا يمكن وصفه بالانفصام الحميد حيث بامكان الروائي حماية "أناه" خلال وعند الانتهاء من كتابة روايته، فيقدر على اتخاذ القرار الحكيم لقتل "الآخر" ودفنه مع طي الورقة الأخيرة.
إن ميكانزم العلاقة هنا غاية في الحساسية حيث تموج فيها "حضورات" متعددة ومتناقضة غالبًا، فالأنا الروائي عليها أن تختزل أكثر من آخر فيها يتمتع بمساحة حضور في زمان ومكان وسياق مختلف عن "آخر" غيره، لأن أي وجود للأنا ولو بنسبة ضئيلة في هذا الآخر يجعله يفقد مصداقيته وحقه المشروع في استقلاليته وقراراته. لذا، يلاحظ أن عمل الروائي يوصف أحيانًا بـ "العالم" بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالات.
الروائي الناجح إذًا، هو القادر على خلق "آخر" يتمتع بشروط حضوره الانساني/ المتخيل كله، والروائي الفاشل، وفق هذه الرؤية، غير القادر على تمهيد الدرب لعبور كامل الآخر وفق ما تحتاج إليه روايته.
واذا شئت لسبب خاص عدم التوسع في هذا الجانب تطبيقيا فاني أكتفي بنماذج محددة بقدر سعيها لتعزيز الفكرة المطروحة فانها تطل على "أنا" الروائي المتسعة لتشمل ليس الآخر مجردا فحسب بل وجوده الدرامي المتصادم مع الأنا بشكل مدوٍّ.
يقول غازي القصيبي على لسان بطل روايته "العصفورية":



"يهودية؟! يهودية؟! يهودية؟! ولا تقولين لي! ولا تخبرينني! تسمعينني أسبّ إسرائيل وألعن الصهاينة وأنت صامتة؟ تطبعين خطبي في تأييد القضية الفلسطينية ولا تتكلمين؟ هل أنت جاسوسة إسرائيلية؟" (ص 74).
بهذه الانفعالية الشديدة يعبر البروفيسور بطل الرواية عن صدمته بعد أن اكتشف أن الفتاة سوزان التي يقيم معها علاقة في أميركا يهودية. ويعلل ذلك بالقول: اليهودية لم تغضبه، إنما أغضبه عدم اطلاعها إياه على يهوديتها، الأمر الذي دفعه للظن أنها تعمل لحساب الاستخبارات الإسرائيلية.
الروائي في هذه المشهدية من الرواية تحديدًا يقدم شكلين، بداية، لحضور "أنا" شخصياته، وعلى الرغم من أن الشخصية الأولى تختزل بكلامها حضور الشخصية الأخرى، فانها سعت دون أن تدري ربما إلى إظهار استقلالية هذه الشخصية في هذا الجانب خاصةً، بمعنى أن شخصية الفتاة التي هي ضمن أنا الروائي وهي آخر بالنسبة إليه والى بطل روايته في الوقت نفسه، أبدت جانبا من الثقافة أو التربية الغربية – إذا صح التعبير والإيحاء- فهي تمكنت من سماع رأي "الآخر" المطروح بشعبها ودولتها دون أن تظهر انفعالا في هذا الجانب، بل ساهمت بشكل من الأشكال بتمكنه من نقل هذه الآراء دون أي اعتراض من قبلها. فيما البطل العربي وهو الحامل للقب علمي عال فشل في هذا الجانب، مسارعا بتفسير قبولها أو صمتها عما يقوله بالعمل لحساب المخابرات الإسرائيلية.
هنا يمكن القول بسقوط مقولة: "ان الآخر والعلاقة معه لا تزال من المصطلحات النخبوية ولم تحوّل لخطاب شعبي"، حيث ان بعض هذه النخبة تقع في الانفعال الشعبي عند أول احتكاك لها بآخر مختلف.
نجح الروائي في هذه الجزئية من روايته باقناع القارئ وهو الآخر المستقل بشكل كامل عنه، وذلك بتمكنه من استحضار شخصياته بمشهدية متصادمة تضمنت فيما تضمنته: الفعل ورد الفعل لشخصيتين، تجسد بحضور مكثف لتربية وثقافة كل منهما في سياق اجتماعي مختلف، على الرغم من اجتماعهما في مكان واحد وارتباطهما معًا بعلاقة ما.

في المقابل ان رواية "نباح" لعبده خال هي - إذا أمكن القول - رواية يتعدد فيها خطاب الأنا والآخر بحضورات مختلفة، وإذا شاءت الورقة الابتعاد عن علاقة الأنا المحلية بالآخر العربي فان هذا لإدراك أهمية هذه الجانب الذي يحتاج إلى دراسة منفصلة ومتعمقة لحضورها الغني والواسع والمؤلم إذا صح التعبير.
يذكر الراوي حوارا جرى بين عدد من شخصيات الرواية يقول:
"خرج سراج الينبعاوي من دورة المياه، ووضوؤه يتقطر من لحيته الكثة، ووقف متسائلا:
- كل واحد من الفريقين يدّعي أن الحق معه، فصدام يرفع شعار الله أكبر، ونحن نرفع لا اله إلا الله محمد رسول الله، فأين هو الحق من الفريقين؟
- هذه فتنة من اجتنبها غنم.
- هذه فتنة أمريكا، وبعض أعوانها من العرب.
- لعنة الله على أمريكا، وعلى الصهاينة الكلاب.
- ولا تنس لعنة الله الكبرى على صدام الذي تسبب في كل هذه الكوارث".
هذا الخطاب الشعبي الذي جرى تداوله في الواقع وعلى أكثر من لسان، سعى الخال لاثباته في روايته، فالرواية تبقى وثيقة مهمة للتاريخ كما حصل مع روايات أخرى عربيا وعالميا. ولعل الدلالة واضحة هنا بأن الشخصيات تتحدث عن حرب الخليج وتحديدا عندما هدد الرئيس العراقي السابق صدام حسين بقصف المملكة وقد فعل ذلك، وشكل هذا الحدث ردود فعل متفاوتة في الشارع العربي عامة والسعودي خاصة. إنما ما يظهر هنا هو الارتباك الواضح في حديث الشخصية الأولى، حيث بدا صدام الذي من المفترض أن يكون "الأنا" بالاشارة إلى رفعه شعار "الله أكبر" الذي يرفعه العالم الإسلامي عامة والمملكة خاصة، صداما "آخر" لتسببه بكل هذه الكوارث عندما تواطأ مع "الآخر" أميركا وإسرائيل بتحقيق الفتنة.
وقد أشار الراوي إلى هذا الشرخ القاتل عندما قال في مكان آخر من روايته:
"حرب الخليج هذه الكارثة التي اصطلينا بها كدجاج جلب من حظيرة لتقديمه في وليمة عشاء فاخرة، وكان على المدعوين تنفيذ شرط الوليمة: الاستمتاع بالشواء، وترك لحمنا ينز، يتساقط زيته على نار مستعرة من غير أن تمسسه يد!".
ويمضي متسائلا:
"- كم ضحية نضج جسدها في حفلة الشواء تلك؟ إبراهيم المؤذن، ياسين، أبو ناب، عيسى شرف، وفاء، زينب، فؤاد، ليلى، محسن، أنا، زوجتي،
أطفالي، العم جابر وحفيده، زوجة ابنه، وآلاف من البشر الذين لا أعرفهم.
جميعا كنا في قضيب واحد نكمل دورة الشواء على مهل، كل منا تساقط لحمه في تلك النار المتأججة، أُخِذَ من أجسادنا ما لم يؤخذ من جسدي صدام، أو بوش مثلا."
هنا تبدو الأنا متشظية مرتبكة مشروخة فاقدة الرؤية والرأي السليم، فيما يلحظ أن ثمة شبه إجماع على لعن "الآخر" أمريكا والصهاينة، واتهامهما بالفتنة الواقعة.
أمام هذا الاتهام لا يمكن لوم العامة على اعتقادها هذا، فبطل رواية القصيبي وهو بروفيسور، سارع بدوره إلى اتهام الفتاة اليهودية بالعمالة فورًا لسبب بسيط أنها لم تشأ الإعلان عن دينها أمامه، لأن هذا شأن شخصي وخاص غربيا، ومن المفترض أن يكون عربيا أيضًا، حيث هناك شرائح من الأديان الأخرى بل وضمن المؤمنين بالإسلام نفسه يحرص البعض منهم على عدم الافصاح عن مذهبهم أمام أشخاص ينتمون لمذهب آخر.
في مكان آخر من رواية نباح نقرأ ما يلي:
" - وقعنا في خطأ تكتيكي حيث كان علينا أن نجاهد هنا، وليس في أفغانستان. لو أننا بقينا هنا لما سمحنا للكفار أن تطأ أقدامهم تراب الأرض المقدسة".
وتمضي الشخصية قائلة بعد أن أخذتها الحمية فتمادت في صب اللوم على المتقاعسين عن نصرة الدين:
"- هل تعلمون إن النساء الأمريكيات في كل بقعة من بلاد الحرمين. هم يريدون إخراج نسائنا من بيوتهن ليتبرجن تبرج الجاهلية؟
كان الكل معلقا بصره في وجهه، الكل يسرق شيئا من تلك الملامح العذبة، والكل منجرفا مع كلماته الحماسية يتوقدون شوقا لفعل أي شيء:
- هل تعلمون أيضا أن أمريكا تريد إخراجنا من ديننا بدعوات الفاسقين، والفاسقات من أبناء أمتنا، فمظهر دعوتهم بريء كأن يقال: الدخول في العصر، التحديث، المواكبة.. كل هذه المفردات ستجعل شبابنا ينسل من دينه كما تنسل الشعرة من العجين".
إن مستوى وعي "الأنا" بـ "الآخر" في هذا الجانب من الرواية، وصل إلى ذروة الراديكالية باعتبارها "الآخر" شرًا مطلقا، لذا من الضرورة أن تنادي بإلغائه قبل أن يلغيها.
وقد توسل خطاب "الأنا" في ذلك مستوى: "النساء الأمريكيات"، واعتبار أمريكا بالمطلق تريد إخراج "الأنا" من دينها بدعوات الفاسقين والفاسقات من أبناء أمتها". وهذا الخطر الحقيقي الذي ترى فيه "الأنا" المتعلقة بنقاء ما في تاريخها، تهديدا يقطع سعيها لالتحام ممتد من المستقبل إلى الحاضر والماضي، لا مجال فيه لتشويه "الأنا" وازاحتها عن مسيرها نحو ما تراه انه خلاصها.
هذا التأطير للآخر في حيز اعتباره "شرا مطلقا" كما جسدته الرواية لم يكن ببعيد عن تمسك وعي البعض في الواقع بالإيمان نفسه. فـ "أنا" الروائي هنا خصصت مساحة رحبة للشخصيات المعبرة عن "أنا" النقاء – إذا صح التعبير – لتنقل كل هواجسها وعدائيتها تجاه "الآخر" دون تدخل يذكر من قبلها إلا في حدود اخضاعها لسياق السرد والأحداث، وكانت أمينة الى حد كبير في ذلك.
تتساءل الرواية في مكان آخر: "... وياسين هل انقلب على الأمريكان الذين حملوه من حي بائس ليكون ربيبا لهم فإذا به ينكص من هناك بحثا عن شعر أشقر ليشبعه طعنا.. اختلف زمن الطعن فحين كنا نتعلق بفروع الشجر مطلين على السفارة الأمريكية، كان ياسين يبحث عن جسد لدن يطعنه للمتعة أما الآن فهو زمن الطعن المستوحش!!".
التأزم يتعمق بين "الأنا" و"الآخر" أمام هذا التساؤل القاسي، عندما يعي القارئ أن الساعي لإلغاء "الآخر" كان ربيب هذا الآخر نفسه.. لكن عندما شبّ خرج عن طوقه وأراد "قتله". هذه المشهدية التراجيدية يلاحظ مدى محاكاتها لعقدة قتل الأب، لكن ليس لسبب نفسي وحسب بل تراكمت العقدة لتشمل تراكمات إيمانية وتاريخية، فبات من غير الممكن لهذه "الأنا" أن تحافظ على نقائها بغير قتل الآخر، ولو اقتضى الأمر الذهاب إلى معقله وضربه هناك.
"أنا" الروائي العربي سعت لتأمل الآخر ضمنها بوضوح حينًا، وبتوتر عال في معظم الأحيان. فالآخر المنتصر واقعا جعل أنا الروائي العربي تجهد لتخرج من هزيمتها بمشهديات متوترة قلقة قاسية مع ذاتها ومع محيطها، وبدا "الآخر" هو الساعي لتقويض خيط البراءة والطمأنينة المتوارثة. وقد أشار الروائي إلى أن اختزال ثقافة الأنا في "الأصالة" رفض للتعدد وحجب لدور الآخر، وقد رفع البعض منهم من خطابهم ليبينوا: أن التسلح بالماضي أشبه بنعامة تدفن رأسها بالرمل، وأن لا خصوصية لثقافة الأنا سوى أسئلتها، وان تجددها يكون بالنقد والجدل وأحيانا بخيانة المسلمات التي كانت قائمة عليها.
وإذا كان لا بد من كلمة في الخلاصة فإن المطلوب هو خلق مسافة بيننا وبين أنفسنا وردم الهوة القائمة بيننا وبين الآخر. ولعل مقولة "الأنا هبة الآخرين" تحتم على القيادات الفكرية والسياسية والاقتصادية أن تدخل مجتمعاتنا ومؤسساتنا وثقافتنا إلى زمن الاختلاف، وتخليصها من نظرية المؤامرة ومنطق النعامة وموضعة الآخر. والتأكيد على أن لا وجود لأنا نقية وواحدة ومنتهية ومطلقة، كما انه لا وجود لآخر واحد ونقي.



* ورقة بحثية ألقيت في نادي جدة الادبي ضمن محور: الأنا والاخر في الرواية


- جدة في 12/ 2/ 2006م.
· kamelsaleh@hotmail.com

7 فبراير 2009

«النوم في العاصفة».. الدخول إلى الإدارة من باب الحكمة والسرد

يخرج الباحث إقبال السريحي من مساحة المادة الكلاسيكية في حديثه عن الإدارة، إلى رحاب السرد، مقدما التفاصيل الدقيقة عن عمل المؤسسات والشركات بلغة قصصية تبعث المتعة في نفس القارئ، وتبعده في الوقت نفسه عن جفاف اللغة العلمية التي تحضر عادة في هكذا كتابات. السريحي أصدر كتابا هو الأول له بعنوان "النوم في العاصفة – نحو فلسفة المنظمة الإنسان" وقد اتسمت الحميمية في الكتاب منذ الإهداء الذي خصه إلى "اللذين علماني كيف أكون مستعدا للعاصفة إلى أمي وأبي"، وصولا إلى فصول الكتاب كافة. ولم يبتعد التقديم عن هذه الأجواء، حيث استعاد المؤلف أيام الجامعة، وبيتر دراكار أبو علم الإدارة الحديثة، متذكرا لحظة تفجر عشقه للإدارة عندما لفت نظره كتاب دراكار "ممارسة الإدارة"، في إحدى المكتبات. ويشبه الكاتب ولوجه عالم الإدارة كطفل يدلف إلى غرفة مليئة بالألعاب فلا يغمض له جفن حتى يلعب بها كلها. ولعل هذا الاحساس الذي غمر الكتاب من أول ورقة فيه، أضفى عليه روحا من القلق والحلم، فضلا عن اللغة الأدبية المتشبعة بعالم القصص والتشبيهات والاستعارات، إذ لا تعبر نقطة جديدة في الكتاب إلا ويمهد لها بمثل وحكمة وحكاية موجزة معبرة هادفة، تختصر نصف الطريق نحو المراد قوله وتقديمه في المجال الذي يتناوله الكتاب، ومثالا على ذلك، استهل الفصل الأول "العاصفة" بالقول: "السبيل الوحيد للنجاة هو أن نشارك في صناعة المستقبل أو أن نكون جاهزين له"، ويتابع بسرد قصة النجارين، ليوضح فيما بعد الأبعاد من ذكرها، فيشبه اقتسام أهل القرية للأبواب والشبابيك بـ"كعكة الانتاج" والنجار العجوز بالدول المتسيدة في بيع التكنولوجيا والتدريب وقطع الغيار، أما النجار الشاب فيمثل الدول غير القادرة على التخلص من سطوة "الرجل العجوز".
ويواصل السريحي كتابة فصول عمله الجديد متناولا فيه: المنظمات الحية، التغيير والتجدد، المنظمة المرنة، سلوك المنظمة، التمتين، كيف تنام في العاصفة وهو عبارة عن 51 نصيحة أوضح أنها ليست من باب التلخيص، لكنها لاختبار إن كان مفهومنا للمنظمة كإنسان أصبح منطلقا لسلوكنا اتجاهها، ويختتم الكتاب بثبت للمراجع العربية والأجنبية.
ولعله من المفيد في خلاصة هذه القراءة، ايضاح مفهوم المنظمة المقصود في الكتاب، حيث أوضح المؤلف "أن المنظمة مفهوم إداري يعني مجموعة من الأفراد لهم هدف معين، ويستخدمون طريقا أو أكثر للوصول إليه، وبالتالي يشمل المؤسسات والشركات والبنوك والمنظمات غير الربحية والدول والمدارس والجامعات".يشار إلى أن الكتاب جاء في 136 صفحة من القطع الوسط.
عكاظ ( السبت 12/02/1430هـ ) 07/ فبراير/2009 العدد : 2792

25 يناير 2009

عبده خال في "الطين" : من قرأ " روايات " في رواية


الدخول إلى عالم " الطين" كالدخول إلى بيت الإنسان حيث تختلف المساحات وألوان الجدران والغايات والاستعمالات، فـ"الطين" مادة أولية للوجود ، ومنه اتخذت الأرض حركتها ولونها ومزاجها .

وبقدر ما للطين من وجوه وتضاريس بقدر ما تمكن الزميل والروائي عبده خال أن يمعن في تشكلها بصورة أخرى معكراً انسيابها التاريخي ويضعها أمام إطارها الجديد / القديم . لا يمكن تحديد بطل أوحد في رواية عبده خال الصادرة عن دار الساقي بعنوان "الطين"، فالأبطال كثر والحكايات لا تنتهي فثمة ثقب كبير في الذاكرة يدلق كل ما فيها وجاهد عبده للسيطرة عليها وتنسيقها وترتيبها كي لا تلوث لب المحور أو لنقل المحاور.

هل قرأتم "روايات " في " راوية " ؟ نعم فطين عبده خال ليست رواية واحدة بل روايات وليست بطلاً محورياً بل أبطال ويمكن بشيء من الثقة القول إن كل صفحة فيها تشكل قصة وتشكل حدثاُ غير أنها لا شك متعبة ومضنية وتجعلك منساقاً خلفها كطفل سحره صوت زخات المطر على زجاج منزله .

الرواية تمتد بين عالمين يتصلان بالذاكرة ورغبة المعرفة تمتد بين الخرافة والتقاليد والعادات من جهة والعلم والبحث والمعرفة الأكاديمية من جهة أخرى بين الشعوذة واليقين .. بين القهر وتنفس الحرية المطلقة . من الممكن أن نكون بلا ظل لكن من المستحيل أن نكون بلا ماض ، بلا تشكيلات أولى بلا "طين" .

رواية عبده صراع بين " طين " يريد ان يبسط سيطرته و" ظل " لا يريد ان يلحق أحدا أو أن يخضع لرغبة حركة الشمس .. رواية يختزن فيها زمن شاسع بأيام معدودات ويختزن فيها حدث واحد بآلاف الزوايا . كيف يمكننا إيجاز "الطين" بأسطر؟ ماذا يمكن أن نقول أو أن نصف ؟ هل لنا وصف أنفسنا تناقضاتنا .. صراعاتنا .. أوجاعنا .. عشقنا كرهنا هل لنا ذلك ؟ لعبة مميتة أراد عبده خال أن يعلمنا إياها غير انه هو بدوره قرر قبل ختام " طينه" أن يسلم قيادة سرده إلى علماء نفس واجتماع وتاريخ وفيزياء وشعراء وسحرة ودجالين .. هل خاف من " ظله الضائع حقاً " فارتمى على أحضان خفة الواقع / العلم هرباً من سحر جنونه ؟ عبده خال الذي وصل إلى صفحاته الأخيرة غير مبلل بما اقترف خياله .. التفت خلفه ليجد عوالم مسحوقة وأبطالا يسقطون تدريجياً بلا رحمة .

وقف عبده على مشارف " طينه " يحاول أن ينفض يديه ولغته وذاكرته من كل شيء ، من كل هذه الكوابيس التي لا مستها الأحلام ومضت .

هي رواية ، هي " ظل " هي " طين " هي " بطل وأبطال " هي كل هذا وقليل من القلق وكثير من متعة القراءة .

24 يناير 2009

الملائكة والسياب والشعر الانكليزي


سعى الشعر الحديث، الذي يمكن تحديد بداياته في أربعينيات القرن العشرين، إلى خرق النظام الشعري المتوارث، ولعل عدم الدخول في من بدأ بهذا «الخرق» هو تأكيدٌ لبحث في أهمية الحدث لا أهمية «المحدث»، بمعنى، إذا تم إحالة التجديد الشعري إلى بدر شاكر السياب أو نازك الملائكة، فهما معًا كانا حصيلة تأثيرات ثقافية عامة دفعتهما إلى ولوج هذا الباب الشعري الجديد. ولعل كلام يوسف الخال في هذا الإطار يؤكد هذا الاتجاه، وذلك عندما يقرّ في كتابه بتأثير دراسة الشعر الإنكليزي في نشوء حركة الشعر الحر في العالم العربي، وذلك عندما يسأل:

هل اكتشفته نازك الملائكة أم اكتشفه بدر شاكر السياب؟

وإذ يستبعد الخال حلاً لمعرفة المكتشف الأول، يطرح المسألة من ناحية أخرى، فيقول:

أم لا هذا ولا ذاك؟ بل وقوع كلا الشاعرين الناشئين معًا، في طليعة من وقعوا من شعراء جيلهما الناشئ تحت تأثير دراسة الشعر الإنكليزي المعاصر في كلية الآداب ببغداد من جهة، وقراءة الترجمات التي أخذت تنتشر لشعراء شيوعيين كناظم حكمت ونيرودا ولوركا أو لشعراء معاصرين آخرين كـ . ت.س. إليوت، وعزرا باوند وأدث ستويل؟.

وتقول الناقدة خالدة سعيد في هذا الموضوع: «قيل كلام كثير حول التجديد في العروض، ونسبة هذا التجديد إلى نازك الملائكة أو بدر السياب. كما أن الشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي تقصت في أطروحتها حول التيارات والحركات في الشعر العربي المعاصر (جامعة لندن)، بوادر هذا التجديد العروضي عند كثيرين قبل السياب والملائكة».

وتخلص سعيد للقول: «في رأيي أن أهمية هذا التجديد تكمن خاصة، وفي الدرجة الأولى، في كونه وجهًا من وجوه التململ العربي، فإذا «جدد شاعر ما عروضيًّا و«حافظ»، على صعيد النظر والحساسية، بات تجديده مزيفًا ولا معنى له.

ولعل كلام السياب نفسه يندرج ضمن هذا السياق، إذ أدرك أن إلحاحه على تقرير الأسبقية لابتكار هذا الشكل لا يحفل بمجد كثير إذ تقرير «الأوائل» من الأمور العسيرة، لذا يقول: «ومهما يكن فإن كوني أنا أو نازك أو [علي أحمد] باكثير [شاعر يمني] أول من كتب الشعر الحر أو آخر من كتبه ليس بالأمر المهم؛ وإنما الأمر المهم هو أن يكتب الشاعر فيجيد فيما كتبه، ولن يشفع له – إن لم يجود – أنه كان أول من كتب على هذا الوزن أو تلك القافية». وعن الشعر الحر يقول: «إن الشعر الحر أكثر من اختلاف عدد التفعيلات المتشابهة بين بيت وآخر، إنه بناء فني جديد، واتجاه واقعي جديد، جاء ليسحق الميوعة الرومانتيكية وأدب الأبراج العالية وجمود الكلاسيكية، كما جاء ليسحق الشعر الخطابي الذي اعتاد السياسيون والاجتماعيون الكتابة به».

لذا، فالأهمية تكمن في حيثيات هذه الخطوة، بعيدًا عن الدخول فيمن قام بها أولاً، ولعل ما يؤكد هذا أن الفرق الزمني بين خطوة الاثنين لا يتخطى الشهر كحد أقصى.

ومما لا شك فيه أن هذه الخطوة أتت نتيجة تضافر عوامل مختلفة، لعل من أهمها تململ الشعراء سأمًا من الشكل القديم، ومواصلة الوقوف على ثقافة الغرب، والتعمق في آداب كتّابه وشعرائه ومثقفيه، التي بدأها في بدايات القرن الشاعر خليل مطران الذي عدّ من أوائل دعاة التجديد في الشعر العربي الحديث، وقد اطلع على الشعر الفرنسي، وعلى المدرسة الرومانسية الإنكليزية ، غير أن دعوته اتسمت بالحفاظ على الخصوصية والهوية العربيتين، وهذا ما يتضح من مقالته «التجديد في الشعر»، حيث يقول: «أنْ يكون شعرنا مرآة صادقة لعصرنا في مختلف أنواع رقيّه.. وأن يتغير شعرنا مثلما تغير كل شيء في الدنيا مع بقائه شرقيًّا ومع بقائه عربيًّا»اذن، لعل السبب في تبني الشعراء العرب للشكل الشعري الجديد، يعود لعوامل عدة، منها ترجمة الشعر الأجنبي إلى العربية، حيث لمسوا أن هذا الشعر، الذي لم يكن في معظمه موزونًا أو مقفى، بقي محافظًا على أصالته وشعريته ومعانيه وصوره. كذلك وجدوا في هذا الشكل الشعري وسيلة جديدة، بين النثر والشعر، ذات عنصر درامي، ولهذا انتقلت بعض خواص النثر إليه.

يمكن إلى ذلك، إضافة عامل سياسي اجتماعي، تمثل بأن اتجاهات الرومانسية والرمزية في الشعر قد واكبت عملية تأسيس كيانات سايكس بيكو، فكان الابتعاد عن العمودية الشعرية العربية يتعمق بمقدار ما أخذ يتعمق الشعور الوطني عند كل كيان من كيانات العرب.

( الجمعة 07/06/1428هـ ) 22/ يونيو/2007 العدد : 2196

"المخش"... النزيف السريع

يبدأ يحيى سبعي الإمساك بقصصه المنشورة في الكتاب الذي صدر تحت عنوان ( المخش ) من الصفحة 71 أي من " مواجز قصصية لأمهات قرويات " إذ بدءاً من هنا يلج سبعي نحو لغة سردية هادئة بعيدة عن التشنج والبتر وعد التناسق بين المشاهد .
لا شك يلحظ القارئ بسرعة الإرباك الذي يرافق النصف الأول من مجموعة السبعي ، هذا الإرباك ناتج عن محاولة قوله كل شيء في نص واحد ، فنجده يسيل ذاكرته دون تمكنه من السيطرة على هذا السيلان عبر جمل سردية تستطيع حمل عبء هذا النزيف السريع ، من هنا غابت استراتيجية سبعي القصصية ، فضلاً عن عدد الصفحات التي تفاوتت بشكل كبير بين الواحدة والأخرى .
أما في القسم الثاني من المجموعة فيلاحظ القارئ أن ثمة هدوءاً ومقدرة على السيطرة في السرد ، وتركيزاً في المشهد ـ الحدث ، ووضوح للأشخاص اضافة إلى خيط تصاعدي للحدث يمكن لمسه والتفاعل معه ، لكن ما يجمع النصوصو العشرة في ( المخش ) هو توغل السبعي في لعبة الزمان ـ المكان من جهة ومن جهة أخرى الوقوف أمام ذاكرته محاولاً نشر ما فيها على الورق ، وكأنه يقف على حافة العمر ، فيلتقط كافة التفاصيل الصغيرة والكبيرة الراحلة والقادمة الصاعدة والهابطة .. من خلال حبكة درامية تقطعها مفاصل قاسية وأحيانا تائهة وهو القائل ( التفاصيل البسيطة هي الأروع ) .فضلا عن ذلك تتمتع بعض النصوص بلغة تلامس فضاء الشعر ، من خلال توسله للرمج والإيجاز وإقامة حالة من اللامعقول في موقف ما أو جملة ما فينكسر الكلام على مشهدية مفتوحة عبر فضاءات من الصور ، ولعل انطلاقا من هذا يمكن لسبعي أن ينشيء حالة خاصة به في الفن القصصي .
الكتاب وقع في 137 صفحة . من القطع الوسط لوحة الغلاف للأديب عادل الحوشان .

قصائد فايزة سعيد.. «تمرد» يبحث عن لغته


تتخذ الشاعرة السعودية فايزة سعيد من الجسد الانساني حقلا لتغذية عالمها الشعري، ولا تجد حرجا في الغوص عميقا بالمحسوسات لتختار منها حيزا يعبر عن شخصيتها وارائها وقراءتها للمسارات الماضية والحاضرة والمستقبلية.

فايزة أصدرت للآن «4» دواوين شعرية منها: نشيد الرغبة وغدائر في مهب الريح في دمشق ونصف تفاحة وحليب جسدي عن دار الحداثة في بيروت. وقد خرجت هذه الاعمال الى النور خلال عامي 2005 و 2006م.

تقول فايزة في ديوانها «نصف تفاحة»:

في اناء ماء ساخن

على فوهة بركان

في ارض خضراء عاشقة

تفتح صدرها

في اتجاه الشمس

الاكثر قربا من السماء

لعل هذا المشهد يختصر بايجاز حركة التمرد التي تعلنها الشاعرة حيث تجتمع الافعال في دلالات واضحة نحو الحفر عميقا بحثا عن الضوء والحرية والانطلاق مستخدمة لذلك مفردات: الماء الساخن والبركان والارض والعشق والشمس والسماء، مشهدية تعكس حالة من الفسيفساء المتسقة مع أهدافها وطريقها.

وفي مقطع اخر تستعيد فايزة الروح النزارية نسبة للشاعر نزار قباني بقولها:

«الشرق اعتاد على قتل الفراشات وذبح العصافير في الفجر».

وتنطلق في مكان آخر للبحث عن المعنى في زمن انهيارات الأبعاد الانسانية فتقف قائلة:

«نهار المدينة مرسم

ولليل المدينة جرار كثيرة

تنكسر على صخرة المعنى»

هذه الثنائية الضوئية : النور والعتمة، تتقاطع مع صناعات الانسان البدائية وهي «الجرار» غير ان هذا الاحتواء المتماهي مع احتواء المرأة للحياة يتكسر في مساحات ليل المدينة الآخذة في التأويلات الكثيرة.

وبالانتقال الى ديوانها الصادر حديثا عن دار الحداثة لا تبتعد فايزة عن أجواء دواوينها السابقة فهي تواصل الحفر في اللغة بحثا عن عبارات تميزها وتشكل بالنسبة اليها ملاذا لثورة تواصل حضورها دون تعب أو كلل.

تقول في قصيدة «ظل الغريب»:

«تحت المطر عاشقان صغيران

وحيدان

يواجهان سادية الثلج

كلما أمطر

نام على بابهم ظل الغريب»

تجربة فايزة سعيد ثرية ضمن الحقل الذي اختارته، وينتظر القارئ منها الغوص في الحقول كافة التي بامكانها اعطاء الوان اخرى لكلماتها ومفردتها و «تمردها».

( الخميس 29/12/1427هـ ) 18/ يناير /2007 العدد : 2041 عكاظ

22 يناير 2009

"براري الحمى" لإبراهيم نصر الله: المكان المريض


د. كامل فرحان صالح *

"يبدو أنك مبسوط هذه الليلة.. كأنك لم تمت"

هل يمكن اعتبار "براري الحمى" لإبراهيم نصر الله رواية؟
هل تصلح "براري الحمى" لمقاربة الواقع المتكئة عليه؟
هل ثمة امكانية للقول إن "براري الحمى" تستشف من الشعر أكثر من السرد؟
رواية أو هلوسة لغوية تتراكم فيها الكلمات والمشاهد وشخصيات تعبر دون أن يفهم وظيفتها؟ تطل شخصية وأخرى كظلال مبتورة ترمي كلمات قليلة ثم تغيب لتبقى في الواجهة شخصية الراوي الوحيدة، فتتحاور مع نفسها، تختلف، ثم تبحث عن "جثتها" الحاضرة الغائبة.
أسئلة كثيرة تطرح نفسها بعد طوي الورقة الأخيرة من الرواية، حيث يجد القارئ أنه خرج من بؤر التأويلات والاشارات والتكرار والأماكن الطوطمية والرؤى المشبعة بشعرية مكثفة دون أن يتمتع بالخروج من دوائر سعى الراوي لرسمها ثم تركها دون أن يقفلها.
ما هو ثابت أن الرواية صدرت سنة 1985 عن دار الشروق، وأعيد نشرها في ثلاث طبعات عربية فيما صدرت حديثا بترجمة دانماركية عن دار أندرسكوفن ترجمتها ماريان مادلونغ، وكانت صدرت بترجمة انكليزية عن دار انترلينك في نيويورك وترجمة ايطاليه أصدرتها دار ايليسو.
تدور أحداث "براري الحمى" في

بدرية البشر..الوعي في مواجهة بقعة الزيت


د. كامل فرحان صالح


يبرز في كتابات الروائية والقاصة والكاتبة الدكتورة بدرية البشر خيطٌ رهيفٌ تنتظم فيه هواجس امرأة مسكونة بالوعي والأسئلة والقلق، تطلّ على مجتمعها بعينٍ دامعة أحيانا، وأحيانا ساخرة أو ناقدة أو متأملة.

تمورُ في ابداعات بدرية تموجات مجتمع لا يتواصل أبيضُه مع أسوده إلا في أمكنة خارج الحياة، عالمان تسعى هي من خلال كتاباتها، أن تمدّ بينهما جسورًا من التواصل والعلاقات الإنسانية الصحية والسلمية والعادية، غير أن الوقوعَ من الحلم يماثلُ الاستيقاظَ من كابوسٍ مرعب. وها هي تحفرُ في خطوطِ الطول والعرض منذ عملِها الأول "نهاية اللعبة" الصادر عام 1992، امتدادا لـ"مساء الأربعاء" عام 96 م، و"حبة الهال" عام 99، وهند والعسكر عام 2005. وصولا الى أبحاثها في: "معارك طاش، قراءة في ذهنية التحريم"، و"دولة الحريم" و"العولمة في مجتمعات الخليج العربي دراسة مقارنة بين دبي الرياض". فضلا عن مقالاتها الصحفية وأوراقِها البحثية التي قدمتها في عددٍ من المهرجانات والمؤتمرات والندوات المحلية والعربية والعالمية.

ومثلما بدرية البشر هي مبدعة فهي كاتبة تحسّ بروح المسؤولية لذلك تقول في حوار صحفي: "إنني أقصّ حكاياتٍ لا جديد فيها غير أنها لا تزال تحدث حتى يومنا هذا!".

هي هنا لا تعترف إلا لتبرزَ سوداوية القصص التي تكتبها، فالروتين التي تشير إليه بابٌ محوريٌّ لرؤيةِ بقعةِ الزيت التي تتسع في واقعٍ مأزوم يجيد الهروب من المواجهة.ورغم اختصاصِها بهموم النساء "المختبئات في كهوفهن" كما تقول، لا توجّه بدرية أصابعَ الاتهام إلى الرجل، وفي هذا السياق تقول: "حين كتبتُ قصصي الهائمة على وجهها في البحث والأسئلة لم أكن قد عرفت الإجابة بعد. كنت أظن أن الرجالَ أحرارٌ أكثر منا نحن النساء، لكنني اكتشفت اليوم أن الرجالَ مساكين مثلنا، هائمون على وجههم في فراغ آخر. فهم يجربون أكثر من النساء في البحث، لكن تجاربهم لا تملأ أرواحهم ولا أحلامهم بالرضا، انها فقط رغبات جسدية يعودون بعدها مثلنا، ظامئون يحنون لعلاقة إنسانية حقيقية في مجتمع طبيعي".

هذا الرأي الذي يعطي معنى حقيقيًا للأفقِ الذي تمارسُ فيه كتاباتِها، لا يأتي من فراغٍ ورؤية شخصية، بل من قراءةٍ عميقةٍ لواقعِها كما تراه، وكما تعايشه أيضا.

وترى في ظلِّ غياب تطور الحوار بين المرأة والرجل باتجاه بعضهم البعض، لن ينجحَ أيّ منهم في الخلاصِ من رحلةِ التيه هذه، مشيرة إلى وجودِ أوهامٍ يصنعُها كلّ منهم بعيدا عن الآخر بفعل بعض الترسبات الثقافية التي تجاوزها الزمن، وهي ما تزيد غربتهم عن بعض.

بدرية كتبت قصصا عن نساءٍ ضاعت أرواحهن في البحث عن الوجود والاعتراف بهن والحبّ، وفي معظمِ ما قدمته تركت النهايات معلقة، كأنها تنتظر تشكلات المشهد في أيام مستقبلية، علها تحمل ما يشفي الروح ويهدئ من دورانها وراء الإجابات المستحيلة في غالب الأوقات.

بدرية البشر لم تخرجْ من السردِ إلى الهمّ الأكاديمي إلا لتكتسبَ مهارةً فائضةً في نسجِ لغتها الخاصة، وخطابِها الإنساني العالي، ففي كتابِها "وقع العولمة في مجتمعات الخليج العربي: دبي والرياض أُنموذجان" وهي أطروحتها للدكتوراه، تسعى لرصد الموضوع من خلال 3 وسائل: الفضائيات والإنترنت والهاتف المحمول، تلك التي تعدّ من أبرز الابتكارات التي تنساب عبرها مفاهيمُ العولمة وثقافتها، وتسهم، كثيراً، بعمليات الاحتكاك الثقافي. وتلحظ في بحثها أن موقفَ الثقافة المحلية في مجتمعات الخليج اتصف بالاضطراب والقلق تجاه هذه الوسائط التكنولوجية الهائلة بإمكاناتها، إضافة إلى الالتباسِ الذي جلبته هذه الظاهرة الجديدة، وما تجلّى في تباين ردود الفعل تجاهها حتى في المنطقة الواحدة. وقد تقصّت ودرست الظاهرة، عبر البحث النظري والبحث التطبيقي، ومما لا شك فيه، ان دراستها هذه، تعدّ من البواكير الأولى التي تناولت وقع العولمة وتداعياتها في الخليج.أما في كتابها: طاش ما طاش، فتقدم قراءة في ذهنية التحريم، متناولة أبرز الحركات الإسلامية في المملكة. وترصد المسلسل في الصحافة عبر مفهوم النقد، وشعبيته، والمعارضين له، لا سيما من خلال معارك "المتدينين" عبر دعواتهم لتحريمه. وقد قدمت بدرية الكتاب بقولها: "عندما خطرت لي فكرة هذا الكتاب (أن أرصد ردود الفعل حول مسلسل: طاش ما طاش) كنت أتحركُ من منطلق أنني في المقام الأول باحثةٌ اجتماعية، وفي المقام الثاني كاتبةُ رأي في الصحافة السعودية، ولطالما كنت مشغولةً بهمومِ مجتمعي، ومهتمة برصد ظواهر الواقع الاجتماعي ومحاولة فهمها وتشريحها وعرضها للرأي العام. كنت أشعرُ على الدوام بمسؤوليتي الجادة، كمواطنة أولا وباحثة اجتماعية وكاتبة رأي ثانياً، أن أقدم وجهةَ نظري فيما يحدث، ومحاولة إثبات أن الواقعَ طالما احتمل وجهات نظر متعددة فإنه واقع صحي يقدم عدة خيارات لكل قارئ ومتأمل". لتخلص إلى القول: "إن من يدعي أن الحقيقة لها لونٌ واحدٌ ووجهةٌ واحدةٌ لا شك أنه صاحبُ فكرٍ مأزوم".

بدرية البشر هذه السيدة المثقفة في طرحِ أوجاعها وقلقها و"عولمتها" و"قهوتها"، فرغم أنها نقلت أحيانا الصورةَ المشروخة كما هي، إلا أنها تمكنت وستتمكن من مواصلة إضاءة دروب مجتمعاتنا بنور الوعي والإدراك والمحبة في مواجهة شرسة لعقول لا تزرع سوى العتمة والسواد والكره والارتياب من الآخر.

جريدة عكاظ ( الجمعة 30/11/1429هـ ) 28/ نوفمبر /2008 العدد : 2721

*ورقة مقدمة الى جماعة السرد في نادي جدة الأدبي، 25/11/2008م

10 سبتمبر 2004

غرفة السماء لميس العثمان: متى نصعد إلى الحياة؟


د. كامل فرحان صالح - إيلاف - الجمعة 10 سبتمبر 2004


"المرأة ليست شخصية من شخصيات الرواية فقط، إنما هي الرواية ذاتها". 
هكذا تستهل الروائية الكويتية ميس خالد العثمان روايتها "غرفة السماء" الصادرة حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. وقعت الرواية في 93 صفحة من القطع الوسط، وتوزعت في ستة فصول.
تطل الرواية على زمن دخل في عتبات النسيان، زمن أيام الغوص في دول الخليج العربي عامة والكويت خاصة، موظفة لذلك أجواء تلك الأيام بتفاصيلها ومصطلحاتها وبعض عاداتها، عبر قصة حب انتهت بأخذ البحر للحبيب.
أحداث الرواية وشخصياتها ليست بغريبة فهي ما زالت تعيش بيننا بشكل أو بآخر، على الرغم من ان زمن الأحداث يعود إلى العام 1935م، وفي مكان ما من الكويت، يمكن تحديده بـغرفة على سطح بيت في "الخويمة" الممتددة على شاطئ البحر، هناك حيث يقع بيت الراوية وبطلة الرواية آمنة.

جديد الموقع

الأكثر مشاهدة (كل الوقت)

خذ ساقيك إلى النبعخذ ساقيك إلى النبع by كامل فرحان صالح
My rating: 5 of 5 stars

ديوان «خذ ساقيك إلى النبع» للشاعر والأكاديمي اللبناني كامل فرحان صالح، صدر لدى «الهيئة العامة لقصور الثقافة» في القاهرة في العام 2013، ضمن «سلسلة آفاق عربية» الشهرية. وأتى هذا الديوان بعد عشرين سنة من صدور ديوان «كناس الكلام» للشاعر صالح، الصادر لدى دار الحداثة في بيروت في العام 1993.
يضم الديوان الجديد الذي وقع في 139 صفحة، 44 قصيدة، وقد أهداه صالح «إلى أرواح من عبروا». أما الغلاف فهو من تصميم أحمد اللباد. يعدّ «خذ ساقيك إلى النبع» الرابع لصالح، بعد « أحزان مرئية » (1985)، و« شوارع داخل الجسد » (1991). و« كناس الكلام ». كما له في الرواية: جنون الحكاية - قجدع ) (1999)، و« حب خارج البرد » (2010). وفي الدراسة: « الشعر والدين: فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي » (ط1 ــ 2004، ط2 – 2010). و" حركية الأدب وفاعليته : في الأنواع والمذاهب الأدبية " (ط1: 2017، وط2: 2018)، و" ملامح من الأدب العالمي " ( ط1: 2017، وط2: 2018)، و" في منهجية البحث العلمي " (ط1: 2018 ).
كتبت عدة دراسات وقراءات في الديوان، ويمكن الاطلاع عليها عبر موقع الشاعر، عبر الرابط الآتي:
https://kamelsaleh1969.blogspot.com/s...
ويمكن تحميل ديوان خذ ساقيك الى النبع من هنا :
https://documentcloud.adobe.com/link/...

View all my reviews