غلاف خذ ساقيك الى النبع |
عماد الدين موسى* - تحميل الديوان
يُعيد الشاعر
اللبناني كامل فرحان صالح القصيدةَ إلى طبيعتها الأولى وفطريّتها، إلى
طفولة الشِعر والأشياء من حولها، سواء من الناحية البلاغيّة أو من جهة
الأجواء التخيّلية وبدائيّة الصورة الشعريّة وكذلك موسيقى الكلمات الهادئة،
والتي تشبه- إلى حدٍّ ما- هبوب النسيم.
وأنتَ تقرأ مجموعته الشعرية الجديدة خذ ساقيك إلى النبع، الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة (القاهرة)، تشعر أن ثمّة ساقية ماء تجري بين أقدامك، هذه الساقية التي
انوجدتْ في أثناء قراءة القصائد، إلا أنّ هدير مياهها لن يفارق مخيّلتك،
وإنْ أنجزتَ القراءة ووضعتَ الكتاب جانباً.
هذه المجموعة، وهي الرابعة
للشاعر، بعد أحزان مرئيّة - 1985، وشوارع داخل الجسد - 1991، وكنّاس
الكلام - 1993، تضمَّنت أربعةً وأربعين قصيدة قصيرة في غالبها، عدا واحدة
طويلة هي مشى في أرضٍ لا زرع فيها، تنحو في اتّجاه التكثيف اللغويّ
والاختزال اللفظي، وتعتمد تقنية المقطع وتتاليها في شكلِ مشاهد أو اسكيتشات
غاية في الذكاء والبراعة، والشاعر، بهذا، يحوّل قصيدته من كونهِا
«مدوَّنة» إلى الصيغة «المشهديّة» والقريبة من التشكيل البصري، في إثارته
للحاسّة الأكثر إدهاشاً وتلقائيّةً في التلقّي.
في قصيدة «خلف الباب»
يبدأ الشاعر بالتمهيد للحديث عن فضاءٍ مغلق، ربما هو قبرٌ أو غرفة، لا فرق
هنا، كون الباب ليس مفتوحاً، والشمس لمّا تدخل بعد بل واقفة على العتبة،
ليواصل بلغةٍ دراميّة تفاصيل حياة مكتظّة بالحنين والدمع، بالإضافة إلى
أسئلة يطرحها الشاعر- الكائن من داخل هذا المكان، ليصل إلى النهاية/ إلى
الموت، حيثُ القلق والأرق الأبديان، اللذان طالما أرّقا المبدع وإبداعه،
حيثُ يقول:
- «لم يكن الباب مفتوحاً/ والشمس واقفة على العتبة/ كتينة تشرّع أسئلتها لهذا الهباء/ مددت كلّ حنيني لأمسح دمعة عن نهارها/ وتعرَّيت لأحضنها في هذا الصقيع/ رأيتهم يصلّون أمام قبري، ورأيتني أبكيني/ وأصرخ: ارحل من هنا/ ربّما.. لم يكن هناك باب/ ربما الشمس نامت قبل أن أصل/ لكن يدي التي رأت، لملمت الغياب/ لتنضج في العتمة الهواجس/ ويبدو الموت خلف الباب».
في الجانب الآخر، وعلى النقيض من الموت، تنشغل قصيدة كامل فرحان
صالح بالحبّ كثيمةٍ لها، محتفيةً بالوجود وماهيّته من خلال تناول علاقته
بالآخر/ الأنثى، الحبيبة والصديقة. وهذا ما نجده في عدد من قصائده، فمن
قصيدة «من لهفتي عليكِ»، إلى «أتدرّبُ على غيابكِ»، مروراً بـ«أصحو على
حَبَقكِ»، و«أمدُّ يدي لأراكِ»، و«أتملّى بللكِ بسورة مريم»، إلى «كثيرةٌ
أنتِ كجيش رومانيّ»، و«ماؤكِ»، و«تمشي إليكِ أرضي»، و«لأصبح كاملكِ»، و«أنا
المريض بكِ»، و«كلّكِ»، وغيرها من القصائد التي تأخذ الحبّ، وتحديداً تلك
العلاقة الروحيّة بين الشاعر وأنثاهُ، أرضيّةً لها، ليمتدّ هذا الحبُّ
وتكبر دائرته ليشمل كافّة جزئيّات الحياة بصغيرها وكبيرها.
إلى جانب
الحبّ نجد الحزن، الحزن الممزوج بالفرح المملوء بالأمل والتفاؤل، ففي قصيدة
«أتدرّب على غيابكِ» يعمدُ الشاعر إلى التذكّر ورسم خصائل أنثاه، ناعتاً
إياها بالخضرةِ والخصب، وكأنها قادمة من زمن الأساطير، حيثُ يقول:
- «في روحي تتمدَّدين كحقلٍ/ كلما انحنى الصباح على نافذتي/ يا حبقي/ لا معنى لي دون بللِ أنفاسكِ/ هذا النهارُ لكِ/ وهذا الياسمين البلديّ لكِ/ صلاة المؤمنين قبل الساعة الأخيرة لكِ/ .../ في حضرة معناكِ لا تكتمل الكلمات/ فأخبريني: أيّ بحرٍ شقيٍّ يليقُ بك؟/ كنهر سنونوات/ أحملُ تاريخ الشتاء/ في فصلٍ أخيرٍ من الحزنِ/ أتدرّبُ على غيابكِ/ وأقول: بعبوركِ يستقيمُ الخلاص».
هكذا ورغم محاولة الشاعر التدرّب على غياب الحبيبة، إلا أنه يعترف أن لا
خلاص دون حضورها ليكتمل الحبّ، ومن ثمّ، لتستمرّ الحياة.
ولعل تدويل
الوقائع اليوميّة إلى لغة شِعريّة داخل قصيدته هو ما منح لغة الشاعر
الحيويّة والتحليق عالياً، وعدم الوقوع في فخّ التقريريّة الفجّة أو ما
يسمّى لغة الواقع.
بدورها، الغنائيّة الشفيفة، بشعريّتها ونداوتها لا
بمفهومها السلبي، أضفت السلاسة والحميميّة على قصائد المجموعة، فبدتْ
وكأنها الأزهار الربيعيّة في صبح إشراقاتها وتفتّحها، وهي ترتدي قمصان
الندىفغدتْ القصائد أقرب إلى أشياء وجوديّة وجماليّة أخرى، إلى الأزهار
مثلاً، لتشكّل- بمجموعها- حديقةً غنّاءةً وغنيّةً، هي- دون شك - «خذ ساقيك
إلى النبع».
* مجلة الدوحة 1 شباط 2015