(ألقيت هذه الكلمة في الأمسية الاحتفائية بالأخوين رحباني كشاعرين في زوايا الحمرا – 20 كانون الأول 2012 ، وكانت بحضور إلياس الرحباني) *
يقول الأخوان رحباني، في "بياع الخواتم":
"رح نحكي قصة ضيعه
لا القصة صحيحة ولا الضيعة موجودة
بس، بليلة هوي وضجران
خرتش انسان ع ورقة
صارت القصة وعمرت الضيعة".
ولا أرى في هذا القصةِ الشعريةِ، سوى الأخوين رحباني.
يبدو أن الحديثَ عن الأخوين رحباني كمن يتحدث عن تاريخِ وطن، من شعبٍ وترابٍ وأحداثٍ وحروبٍ وسلام.. تاريخٍ يضجُّ بالفرحِ كما يضجُّ بالوجع.
الأخوان وقد كبرا جدا، كشيوخِ الزمان، يحرسان غاباتِ البساطة، والحبَّ العابقَ بالشيطنة والحكمةِ معًا. من قال لا حكمة في الحبّ؟ من قال إن العشاق لا يعيدون ترتيبَ الأعمار، وحركةَ الكواكب، ويزرعون أرضَ النجومِ، بالقبلِ والولهِ والصلاة؟
الكتابة عنهما ورطة، وقد دخلتُها قصدًا وعمدًا، علّني أتمكنُ من صياغةِ عبارةٍ على شكلِ وردة، لأقولَ لمن جعلا حياتي وحياة الملايين من الناس، أقلَ وحشةٍ وقسوة ووجع.
لغةُ الأخوين الابداعية لم تقتصر على مستوى واحد، بل شهدت عبر مسارِها الطويل الذي بلغ أكثر من ثلاثين عاما، تحولاتٍ يمكنُ أن توصفَ بالجذرية، لتحاكي مسارَ التغيرات الطارئة في المشهدِ اللبناني خصوصاً بعد الحربِ الأهلية اللبنانية.
ويقول الباحث الدكتور نبيل أبو مراد[i] في هذا الإطار، إن الأخوين "لم يعد بامكانهما الكتابة بلغةٍ قديمة، ولا الاستعانة بمواضيع ذات نفحة شعرية رمزية قروية كما في مسرحيات "جسر القمر" و"الليل والقنديل" و"بياع الخواتم"، حتى ولا بمواضيع أو لغة تشبه "هالة والملك"، أو "صح النوم"، أو "الشخص"، أو "ناطورة المفاتيح" وغيرها".
حتى التغني بالوطن اتخذ لهجةً جديدة، وعباراتٍ جديدةً، فبعد أن جعلا لبنان "قطعة سما"، سألا بحرقةٍ وعبر فيروز:
"سألوني شو صاير ببلد العيد / مزروعة عالداير / نار وبواريد.."،
وبعد أن التهمت نيرانُ حروبِنا الكثيرة:
"لبنان يا أخضر حلو"،
أطلقا دعوةَ أملٍ واصرار، أنه راجع:
"لكن رح يرجع / رح يرجع من حرايق / رح يرجع من شوارع هدمتها المدافع"،
ولأن: "سهرتنا عادراج الورد.."، باتت شبهَ مستحيلة، وقفا لينتقدا المشهدَ كلَّه، وقالا بألم:
"سيف المراجل حكم / ضبوا الدوا والقلم / فردك بإيدك شاعر يمحي ويكتب حكم".
لكن، وبعيدًا من هذه التحولات في الكتابة الابداعية بعد منتصف سبعينيات القرن العشرين، بدا واضحًا أن مسارَ بداياتِ الرحلة مع الكلمة واللحن لم تكن سهلة، وقد واجهت في أحيان كثيرة، مسالكَ وعرة، وعراقيلَ كادت أن تُطفئَ الشعلة التي لا تزال مضيئة في عالم الإبداع العربي والعالمي عموماً، واللبناني خصوصاً، وقد استمدت شروطَ خلودِها من البساطةِ في معالجةِ موضوعاتٍ شديدة الحساسية مثل الحبِّ والايمانِ وصراعِ الخير والشر، من دون اغفالِ الكلمة الحلوة، والموسيقى المتجددة، و"الصوت الكبير، صوت فيروز، الذي أعطى الأغنيةَ الرحبانية نكهةً خاصةً فيها من صوفيةٍ وصلاة، كما فيها من كبرٍ وتمرد".
عطاءات الأخوين تنوعت بين مناخات اللغةِ القرويةِ والصوفيةِ والرمزيةِ (مثل: موسم العز، البعلبكية، جسر القمر، الليل والقنديل، بياع الخواتم، دواليب الهوا)، والدخول في مناخاتِ اللغة التاريخية والملحمية والوطنية مع مسرحيات فخر الدين، جبال الصوان، وبترا.
ومع تعقيدات المشهد اللبناني، أخذا اللغةَ إلى الواقع كما في مسرحيات: هالة والملك، الشخص، صح النوم، يعيش يعيش، ناطورة المفاتيح، والمحطة. ويمكن أن يضافَ إلى هذه المناخات، مستوى الخطابِ السياسي الواضح في دلالته مع مسرحيات: لولو، ميس الريم، المؤامرة مستمرة والربيع السابع. من دون نسيان "التابلوهات الغنائية الاستعراضية الصرف" كما في "ناس من ورق" و"قصيدة حب".
من هما الاخوان رحباني؟
من أمسية الرحباني - زوايا 2012 تصوير زهير قصير |
في العام 1923 ولد عاصي الابن البكر لحنّا الرحباني، وبعد عامين أيّ في العام 1925، ولد منصور. لقد تعلّم هذان العبقريان الفنَ بدايةً، من ايقاعات فوار انطلياس، وعبر سكونِ الطبيعة الموحشة وأشجارِ الصفصاف والليمون المحيطة ببيتهما، قرآ الدرسَ الأول في أبجديةِ الحياة. ففي غابة من غابات انطلياس اتخذ حنّا الرحباني بناء قديماً مهجوراً وحولّه إلى مقهى، وحرصًا منه على ألا يخلَّ زوارُه بأصولِ الآداب العامة، علّقَ لافتةً كُتبَ عليها: "المرجو من ضيوفِنا الكرام أن تكونَ أساليبُ سرورِهم مقرونةً بالحشمةِ ومكارمِ الأخلاق، وأن يحرصوا في الشرابِ أن يورطَهم بما يخلّ بالآداب".
هذا الوالد ذو القلبِ الكبير، و"القبضاي" لم يتأخر يومًا عن تقديم المساعدة لمن يطلبها منه، وقد زرع في روحِ أولادِه حبَّ الوطن، والدفاع عنه، ولا أخالُ أفضل درسٍ ممكن أن يقدمَه في هذا السياق، سوى تحديه للسلطةِ العثمانية مرارًا، وقد حُكم عليه بالاعدام مرات عديدة نتيجة ذلك.
وعلى الرغم من صفة "القبضاي"، كان هذا الـ"حنّا" محبّاً للفن، ويجيدُ العزفَ على البزق، هذا العزف الذي انساب في روحِ الطفلين عاصي ومنصور، لينمو ويكبرَ في ما بعد ألحانا ظللت الفصول والمساحات ومقاعد العشاق، لتقفَ وارفةَ الظلال أمام أعمدةِ بعلبك وفي قلبِ بيروت والشام والقدس وبغداد ومكة والقاهرة والاسكندرية وعمّان.. وقارات العالم قاطبةً.
وإذا كانت نغماتُ البزقِ الشعبية، وفي ما بعد، ألحانُ الأب بولس الأشقر الدينية، النافذةَ التي أطلا من خلالها على عالمِ الألحان والموسيقى، فان جدتَهما الأميّة، هي من ناولتهما سلةً تفيض بحكايات القبضايات والمكارية والجن، والقصصِ والشعر العامي ارتجالاً. وقد حاول الأخوان على مقاعد الدراسة كتابةَ القرّاديات على غرار ما كانت الجدة تعلمهما. كما حاولا كتابةَ بعض القصصِ من وحيها.
الأخوان اللذان ارتبطا مبكراً بحبِّ مطالعةِ الأدب والفلسفة والمسرح والتاريخ المحلي والعالمي، ترجما هذا الحبّ باصدارِ مجلةِ الحرشاية (نسبة إلى الحرش) في العام 1937، وكان عاصي يكتبُ موادَها كلَّها بنفسِه بالتعاون مع منصور، وتبعه في ما بعد منصور باصدار مجلة "الأغاني" نسبة إلى كتاب الأغاني للأصفهاني.
ومن أجواء مجلة "الحرشاية"، قصيدةٌ طريفةٌ كتبها عاصي، مزجَ فيها بين اللغة العاميةِ والفصحى، ومما جاء فيها:
قد جاء الليل بظلماته / غمرت أشجار الساحات
لا بيت يضوي بقنديل / خوفا من ضرب الغارات
وبصرت بنومي حبيبة قلبي / قد ضربت لي سلامات
ولقد جاءت تخطر مشياً / وهي من أحلى الستات
فضربتها كفاً شقلبها / طحبشها مثل البيضات
برمت برمت برمت برمت / شبقت خلف الكنبايات
هذا الشغف بالأدب والابداع الذي امتزج بحسِّ الفكاهةِ والبساطة، بدأ يسلكُ دروبَه، كلما كبر وعي الأخوين بالطبيعةِ اللبنانية وبطبائع الناس. ولا غرابة أن يستلا حكاياتِ سبع ومخول وهولو ومدلج وراجح من مخالطتهما للمقلعجية والرعيان والفلاحين في انطلياس وضهور شوير الجبلية، مما أكسبهما لغةً غنيةً بعبقِ الأحراش والغابات والوديان والصخور ورائحةِ زهرِ الليمون والرمان واللوز، من دون أن ننسى ثرثرات النساء وخيبات الرجال.
بدا لافتا للانتباه، أن عاصي ومنصور كانا منذ البدايات، يخطوان خطوةً على دربِ الموسيقى، يتبعانها مباشرةً بخطوةٍ مشابهةٍ على دربِ الأدبِ والكتابة؛ فبعدما التحق عاصي بالكونسرفاتوار الوطني، وبعدما تابع الأخوان معاً دراسة تاريخ الموسيقى الشرقية، وتعرفا إلى الموسيقى البيزنطية الأرثوذكسية والسريانية على يد الأب بولس الأشقر، متزودان بأهمّ مراجع الموسيقى العربية والعالمية، أصدرا معاً في العام 1952 أول ديوان شعري، وعنوانه: "سمراء مها"[ii]، وتضمن بعض الرسوم بريشة أدهم اسماعيل، و77 قصيدة وأغنية بعضها مترجمٌ عن اللغات الأجنبية.
ومن أجواءِ هذا الديوان الأول، الذي سيطر عليه المزاجُ الغنائي، والصورُ الشعرية البسيطة والعادية أحياناً:
سمراء مها / والقلب لها
ما أجملها / آه يا مها
لمها الصد / ولنا الوجد نأتي لحماها
فنغنيها ونناجيها / نشدو لهواها
نلقاها عاتبة / بجفاها ذاهبة
هي دوما غاضبة / من يرضي مها.
هذا المستوى من التعبير غير المعقّد، توغل في ما بعد بالجمال والشفافية والوهج، حتى كادت اللغة تتوحد بالحياة في نصوصهما الشعرية الكثيرة والكثيرة جدا.
شوقي بزيع - من أمسية الرحباني - زوايا 2012 تصوير زهير قصير |
القضية الفلسطينية
قبل أن أختمَ، ولا أخالني قلتُ شيئا "بيحرز" في إبداع هذين النهرين، أودّ أن أشيرَ إلى موقفهما المبدئي من القضية الفلسطينية، ولعل هذا الموقف يوجز معنى العنفوان.
في العام 1955، أي بعد ثماني سنوات على احتلال فلسطين، وقف عاصي ومنصور وفيروز في إذاعةِ "صوت العرب" في القاهرة، ليقولوا لمديرها أحمد سعيد:
"نريد أن نعمل شيئا لفلسطين".
فسألهم سعيد: "أتذهبون إلى غزة؟" فقالوا:
"لا نذهب إلى غزة بطائرة عسكرية".
ويقول منصور عن هذه الحادثة:
"فاقترح أن يسمعنا بعضَ الألحانِ والأغاني الشعبية، وكانت كلُّها بكاء ونواح وكلام مثل: "يا مين يردلنا أرضنا".. وغيرها. قلت له: نحن لن نعمل شيئا مثل هذا... ولا يخلّص فلسطين إلا الفلسطينيون.
قال سعيد: إذن كيف ستتصرفان؟
قلنا له: سنعمل على طريقتنا.
وعملنا "راجعون".. وهو برنامج غنائي مدته 15 دقيقة، وفيه دعوة للفلسطينيين للعودة إلى أراضيهم وقيادة العمل الكفاحي من هناك. ومما جاء في القصيدة/ الأغنية:
وقوفاً وقوفاً أيها المشردون / وقوفاً يا ترى هل تسمعون؟
يا نائمين تحت كل شرفة / يا ساهرين عند كل عطفة
هبوا من الخيام / هبوا من الظلام / لنبني حدود السلام.
في هدأة السكون في رهبة الحصون / أصحابنا على الطريق الرحب يهتفون
في الأمطار: راجعون
في الإعصار: راجعون
في الشموس في الرياح / في الحقول في البطاح
راجعون راجعون راجعون
ولم يتوقف عاصي ومنصور وفيروز هنا، بل استمروا على هذا النهج من الإصرار والتحدي والعنفوان، عبر أغنيات "سنرجع يوما إلى حينا"، و"زهرة المدائن"، و"القدس العتيقة" و"جسر العودة".. وكلُّها دروسٌ في المقاومة وحبِّ الأرض.
***
* أقيمت الأمسية في الساعة التاسعة، في "الصالون الثقافي" لمقهى زوايا الحمرا- بيروت، وتخلل الاحتفائية التي أعدّها وأنسقها د. عماد بدران، قراءات من شعر عاصي ومنصور الوطني والمسرحي والعاطفي مع مرافقة موسيقية. الأمسية قدمتها زينة منصور، وشارك بقراءة النصوص: انعام فقيه، زينة منصور، أمين حمادة، مهدي منصور، سليم علاء الدين، وكامل صالح. وعرضت لوحة كبيرة لفيروز بريشة الفنان د. يوسف غزاوي. كذلك كان هناك كلمة للشاعر شوقي بزيع
[i] - استندت في جزء أساس لكتابة هذا النص، إلى كتاب د.نبيل أبو مراد "الأخوان رحباني: حياة ومسرح، خصائص الكتابة الدرامية"، دار أمجاد للنشر والتوزيع، بيروت 1990
[ii] - صدر عن دار الرواد في دمشق
كامل فرحان صالح - kamel saleh
فيروز بريشة د. يوسف غزاوي |
من أجواء الأمسية - زوايا الحمرا 2012 |
زينة منصور وكامل صالح وشعر الرحابنة - 2012 زوايا |
كامل صالح يقرأ ورقته في الأمسية - زوايا 2012 |
كامل صالح يقدم كلمته الاحتفائية بالرحابنة - زوايا 2012 |
كامل صالح في أمسية الرحابنة - زوايا 2012 |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يسعدني أن أسمع رأيكم