بحث

17 أكتوبر 2022

أمسية صالون الحرف العربي الاحتفائية بكامل فرحان صالح


الدكتور الشاعر كامل فرحان صالح في أمسية حوارية شعرية ادبية نقدية مميزة لصالون ملتقى الحرف العربي 

بتاريخ 15 / 9 / 2022





د. دورين نصر


 قراءة نقديّة في مجموعة "خذ ساقيك إلى النبع" للشّاعر كامل فرحان صالح ، بقلم د. دورين نصر

حين قرأت المجموعة الشعريّة للشّاعر "كامل صالح": "خذ ساقَيْك إلى النبع"، استحضرني الشّاعر عبده وازن، كما استحضرتني مقدّمة همنغواي الشهيرة بأنّ الكاتب (والشّاعر بالضرورة) هو تلك البئر التي أنّى ألقيتَ بدلولك فيها، ستعثر على الماء. وهذا الماء كان يترقرق بين سطور قصائد هذه المجموعة.
إذا كانت الحياة لحظة هاربة، فالشّعر ليس سوى محاولة ممتعة ومضنية للإمساك بهذه اللّحظة الهاربة. وقصائد هذا الديوان تنطوي على لحظتين متعارضتين: الأولى تمجّد الحياة باعتبارها وعاء وُجد ليمتلئ وكأس لتُشرب بحبّ، والثانية رثاء لهذه اللّحظة.
وربّما تساءلت: أين أقف من هذا التّعارض؟ فتأتي الإجابة: أقفُ في صميمه. أقصد في صميم القصائد بكاملها في هذه المجموعة الشعريّة، وتبقى المرأة هي المحرّك الأساسي لكلّ التحوّلات التي اعترت ذات الشّاعر. فقصيدة "كي ينام الطيّبون" ربّما تجسّد كلّ حالات التناقض التي يعيشها المتكلّم حيث المطهّر والمدنّس، الخلاص والهلاك. وعلى غرار شعراء الحداثة، لا يتوانى كامل صالح عن توظيف الرموز الدينيّة في شعره، إذ تصبح المرأة رمزًا للتطهّر، يقول:
"النساء الرشيقات
يعجن طحين روحي بماءٍ وعسل
يا خلاصي الكبير
في أعلى الزيتونة سرُّ المسيح".
ويقول في موضع آخر على غرار الحلاّج:
"كُلّك منّي وكلُّني منك
وكلّهم يستوون تحت عُشبة صلاةٍ باهرة."
هذا النبض الصوفي يرتقي باللّغة ويدفعنا للتحقّق من كيانات وجودها. فالعشق عند كامل صالح ليس عشقًا عاديًّا بل هو كما جاء في كتاب النيسابوري: "منطق الطير، هو جنون القلب".
وشرط الشّعر الوحيد عند كامل صالح، هو الشّعر حين يحوّل أيّ معطى معرفي إلى قصيدة. فيعيدنا مثلاً في قصيدة لهفتي عليكِ إلى زمن البدايات. ورد في الإنجيل المقدّس: "في البدء كانت الكلمة".
وجاء في القصيدة:
"منذ اتكأ آدم على وحدته
أتهجّى إصبعَك الصغير"
فالحياة عنده لا تُصنع من دون أنثى، فهي عشتار التي سترفِد قصائده بالحبّ ليفيض الحبر على الوجود. ويوظّف الشّاعر أسطورة التكوين في قصيدته "أتدرّب على غيابك"، ويعيد إنتاجها بطريقة مختلفة إذ يسخّر كلّ ما في الكون من أجل الحبيبة: الصباح، الحبق، النهار، الياسمين، صلاة المؤمنين، الشتاء، وتصبح الحبيبة المعادل الموضوعي للإله، إذ من خلالها يكون الخلاص: "بعبوركِ يستقيم الخلاص".
فهذا ما يشير إلى توق الشّاعر إلى عالم ما قبل الخطيئة، ما قبل هبوط آدم، حيث كان البشر أطيافًا أثيريين قبل تلك الخطيئة التي لا تتجسّد في فاكهة.
والحبيبة عند كامل صالح لا اسم لها ولا يمكننا العثور على أيّ ملمح من ملامحها، وكأنّها حالة نورانيّة تُعيد تشكيل العالم، كلّ ما في الكون ينطلق منها ويعود إليها.
ويُطلق الشّاعر في قصائده العنان للمجاز. فالمجاز، عنده هو العبور إلى ضفّة جديدة للمعنى، هو آلة لتحويل وبناء المفترض أو الممكن الغائب. وهو في اعتماده المجاز يستبعد الصورة المكتملة، ليبني الحركة بغيابها، بمفترضاتها. فالحركة هي ما يراه، أمّا الانفعالات والمشاعر، فقد أوكلها إلى القارئ. وهي مقيمة في مرآة النّصّ، في انعكاسه، في بعده الآخر، في مُضمَره وما يقدّمه من احتمالات، وليست عينيّة مباشرة.
وإذا تقصّينا عالم المتكلّم وجدناه يلتقط أثر الاشياء الغائبة؛ الأشياء المفترضة. فالأشياء هي ما ليست هي، هي وهمها وظلالها وصورتُها واحتمالاتُها، يقول:
"تحت الحياة عسلٌ
فوق الموت خاتمٌ
حبيبتي بلادٌ تبعدُ كحبل الحنين"
الشّاعر يتأمّل الوجود الذي يعيش مثلَ لحن، يُعشق ولا يُرى، مثلَ كلمات بلا جسد، ومعانٍ بلا زمن، وصورٍ لا نسكنها، لا نلمسها، كبحارٍ لا نستكشفُها، لا نسافرُ فيها ولا نغوص.
في الواقع أردت أن أنطلق من هذه النماذج ومن هذا التحليل لأطرح إشكاليّة واقعة في الشّعر الحديث لا سيّما في قصيدة النثر. إذ يؤكّد الناقد الفرنسي Jean Pierre Richard في تقديم كتابه:
Onze études sur la poésie moderne’’" ، "إحدى عشرة دراسة في الشّعر الحديث" بأنّ أدوات تحليل القصيدة تبقى ناقصة، ما جعله، في دراسته هذه، يكتفي بتناول أشكال الموضوعات فيها، من دون غيرها. فيقارب هذه القصيدة من ناحية موضوعاتها ولا يتوقّف عند مسائل واقعة في بناء الشّعر.
بينما مقترح لويس هيلمسليف يدفعنا للنظر إلى اللّغة وفق مجالين: الشكل والضمون؛ ما دفع غريماس إلى بلورة أدوات التحليل ودرس التعالقات بين ما هو لغوي وما هو شعري ،ما جعل الدرس يخلُص إلى نتيجة: لا وجود لنظام بنائي نسقي واحد لهذه القصيدة من جهة، بينما يتحقّق الدّارس من وجود "انتظامات" فيها، تكراريّة أحيانًا في القصيدة الواحدة، أو في أكثر من قصيدة، من جهة ثانية.
في الواقع، هذا ما لاحظته في قصائد هذه المجموعة، كلّ قصيدة لها بناء قائم بحدّ ذاته. فكامل صالح يولي عناية خاصّة لبناء قصيدته، حيث الاكتناز في المحتوى والاستغناء عن الزوائد، كما أنّنا لاحظنا تباينًا ظاهرًا في حجم القصائد، لكنّ القصيدة القصيرة في حجمها مستفيضة ومحتدمة في إيحائها، وإن كانت وجيزة في عباراتها وإيقاعها. لا يتّسع المجال هنا لدراسة القصيدة على كافّة المستويات (المستوى الطباعي، النحوي، الإيقاعي والدلالي) لأنّ هذا التحليل يصلح أن يكون رسالة ماجستير أو أطروحة دكتورة.
لكن أريد أن أختم بالفكرة التالية: إنّ التحرّر في قصيدة النثر أباح للمتكلّم قدرةً وإمكانيّة قول لم تعد مقيّدة، عدا أنّ احتياجاته باتت متشعّبة، مقدار ما يكون الكلام مفتوحًا على تداعيات النفس، وخواطر البال، ومشاعر الحلّ، واستدعاءات الذاكرة. هذا ما يجعل القول الشّعري فيها متفلّتًا، يتسرّى في غير اتّجاه، في الوقت عينه. وهو ما يقيم صلاتٍ مفتوحةً بين المصدر والراهن، ما يجعل شواغل الذات في المتكلّم حاضرةً حيّةً، تتقلّب بين تعبيرات المشاعر والتأمّلات والأفكار والأحوال.
فالقصيدة عند كامل صالح تشبك في نسيجها النّصّي، ما يمكن تسميته بمعان ودلالات متأتّية من "ثقافيّة" الشّاعر. هذا ما بات ممكنًا، بل مرغوبًا، مناسبًا، ما دام أنّ الشّاعر بات متصرّفًا بالقصيدة.
وتبقى قصيدة النثر قصيدة قلقة وتّفي بنيتها النزاعيّة، في انتظام توتّرها الداخلي. فهي قصيدة خارج أيّ نموذج، مصعبة النمذجة، ما يجعلها مشروعًا واعدًا في صورة دائمة، وجاذبة في الوقت عينه لأجيال متزايدة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يسعدني أن أسمع رأيكم

جديد الموقع

الأكثر مشاهدة (كل الوقت)

خذ ساقيك إلى النبعخذ ساقيك إلى النبع by كامل فرحان صالح
My rating: 5 of 5 stars

ديوان «خذ ساقيك إلى النبع» للشاعر والأكاديمي اللبناني كامل فرحان صالح، صدر لدى «الهيئة العامة لقصور الثقافة» في القاهرة في العام 2013، ضمن «سلسلة آفاق عربية» الشهرية. وأتى هذا الديوان بعد عشرين سنة من صدور ديوان «كناس الكلام» للشاعر صالح، الصادر لدى دار الحداثة في بيروت في العام 1993.
يضم الديوان الجديد الذي وقع في 139 صفحة، 44 قصيدة، وقد أهداه صالح «إلى أرواح من عبروا». أما الغلاف فهو من تصميم أحمد اللباد. يعدّ «خذ ساقيك إلى النبع» الرابع لصالح، بعد « أحزان مرئية » (1985)، و« شوارع داخل الجسد » (1991). و« كناس الكلام ». كما له في الرواية: جنون الحكاية - قجدع ) (1999)، و« حب خارج البرد » (2010). وفي الدراسة: « الشعر والدين: فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي » (ط1 ــ 2004، ط2 – 2010). و" حركية الأدب وفاعليته : في الأنواع والمذاهب الأدبية " (ط1: 2017، وط2: 2018)، و" ملامح من الأدب العالمي " ( ط1: 2017، وط2: 2018)، و" في منهجية البحث العلمي " (ط1: 2018 ).
كتبت عدة دراسات وقراءات في الديوان، ويمكن الاطلاع عليها عبر موقع الشاعر، عبر الرابط الآتي:
https://kamelsaleh1969.blogspot.com/s...
ويمكن تحميل ديوان خذ ساقيك الى النبع من هنا :
https://documentcloud.adobe.com/link/...

View all my reviews