بحث

28 يناير 2021

خذ ساقيك إلى النبع لكامل صالح و حسن الذي انتصر لقصيدة النثر

خذ ساقيك إلى النبع - كامل فرحان صالح


By Ramy.wafa | Opera News  - مصر

كُنت أقضي خدمتي العسكرية عام 2015 كجندي، وعندما انتدُبت من وحدتي الأساسية إلى وحدة أخرى حدثَّني الكثير من الزملاء عن (حسن) قبل أن نلتقي، وما هي إلا أيام وعاد حسن من أجازته والتقينا، شاب صعيدي عمره ستة وعشرون عامًا، أكثر من عرفتهم في الجيش حركة ومشاغبة واختلاقًا للمشاكل، كنت أشعر أنه يحب المشاكل لكسر الملل أكثر من أي شيء آخر، وكان قد انتقل من وحدته الأساسية أيضًا إلينا بسبب إصابة لحقت بواحدة من أرجله، وبالتالي كان بمثابة ضيف لدينا، فهو موجود فقط ليتابعه أطباء الفرع، وباختصار وحدته الأساسية استغلت فرصة إصابته للتخلص منه.
لحسن عادات كثيرة متعبة ومزعجة لكن كان أكثرها إزعاجًا لنا هو عشقه للشاعرهشام الجخ، كان يأتي بهاتف صيني صوته عالٍ جدًا عليه كل قصائد هشام الجخ، ولأن حسن ضيف في فرعنا وليس له عمل محدد فكان من عادته أن يسهر الليل بطوله وينام الصبح كله، وماذا يفعل في الليل؟ بالطبع يستمع بأعلى صوت ممكن لقصائد هشام الجخ ويرددها معه، والأسوأ من هذا أنه كان يستخدم في هذه الجلسة الشاعرية مع نفسه على الأقل سبع أكواب من الشاي مثلًا، ومعهم كيلو من السكر طبعًا، لذلك أصبحنا نخبِّيء منه الشاي والسكر لكن للأسف لم نستطع أن نخبّيء منه الجخ أبدًا.
قضيت فترة طويلة من خدمتي العسكرية في القراءة، كانت السبيل الوحيد للاستفادة من الوقت والقضاء على الملل مساءًا، في أحد الأيام كنت أحضرت كتاب (خذ ساقيك إلى النبع) لكامل فرحان صالح، ولم أكن أعرف كامل ولا بالطبع مستوى الكتاب، لكنني وجدته في مكتبتي وقررت إحضاره للاطلاع عليه، رأي حسن الكتاب في يدي، سألني عنه، قلت له أنه شعر، فتح الكتاب أخذ يقرأ وقال لي إن هذه السطور لا تبدو شعرًا فهو حتى لا يرى الحروف المتشابهة في آخر الكلمات، شرحت له ببساطة أن هذا ما يسمونه قصيدة النثر، فهو شعر لكن لا يلتزم بوزن ولا بقافية، اندهش حسن في البداية لكنه قرر قراءته.
حسن صاحب تعليم متوسط، كذلك مستوى ثقافته، وهو لا يجيد قراءة الفصحى ولا نطقها جيدًا، لكنه يمتلك ذكاء فطري وحبًا حقيقيًا للشعر، فتح حسن الكتاب، وكان لدي ثقة أنه أولًا لن يفهم معظم ما سيقرأ وهذا ليس عيبًا في حسن لكن لأن قصيدة النثر بطبيعتها مكثقة جدًا وضبابية أحيانًا كثيرًا وبعضها سوريالي، أضف لهذا الصعوبة التي ستواجه حسن في التعامل مع اللغة، لكني على كل حال تركت له الكتاب كي نستريح جميعًا من حركته المستمرة ومشاكله التي لا تنتهي أبدًا.
كل عشر دقائق أجد حسن يتحرك من مكانه ويقرأ لي شيئًا من الديوان معجبًا به جدًا، يقول لي انظر كيف يصف كذا؟ أو ما رأيك في هذا التعبير الرائع؟ كنت متعجبًا جدًا من حسن لكني كنت أتجاوب معه، وكلما قرأ أكثر كلما ازداد اندماجه وحبه للكتاب أكثر لدرجة أنه قال لي (كيف تستطيع أن تنام وفي حوزتك هذا الكتاب؟) .. سهر حسن الليل وقرأ الديوان كاملًا وانتهى منه وهو في غاية الإعجاب بهذا الشعر الجديد الذي لم يتعامل معه من قبل، علاقته الحقيقية بالشعر كانت تتمثل في هشام الجخ، وفجأة يرى شعرًا من عالم آخر يقولون أنه قصيدة نثر بلا وزن أو قافية .. لقد أحب حسن متعة التحرر من الوزن والقافية وقراءة شيء شاعري بغير تكلف شروط شعر التفعيلة المعتادة، هكذا وببساطة انتصر حسن لقصيدة النثر التي عرفها لأول مرة فقط لأنها مسَّت شيئًا بداخله.
منذ أن كتبت الشعر وبدأت الاختلاط بوسط نوادي الأدب الذي لم أحبه قط وأنا أسمع نقاشات حول قصيدة النثر، ووجدت الكثير من المثقفين كارهين لها ولكُتَّابها ويرونها امتدادًا
لاندثار المعايير من الفن عمومًا، فهم يرون أن شعرًا بلا وزن ولا قافية يستطيع أي شخص أن يكتبه، وهل يُعقل أن يصبح فنًا ما سهل لهذه الدرجة؟ وفي المقابل كان هناك الكثير من المتعصبين لقصيدة النثر، الذين يعتقدون في حتميتها، وأن الوقوف في وجهها هو وقوف ضد التطور، ويشبهون التيار الذي يعترض على قصيدة النثر بعباس العقاد الذي كان معترضًا بشدة على شعر التفعيلة وكان يرفض أن يطلق عليه شعر ويصنفه نثرًا، وموقفي أنا الشخصي_غير المهم_ من قصيدة النثر هو موقف (حسن) منها، ما دمت أستطيع أن أستمتع بها فسأقرأها، وما دمت أشعر فيها بمشاعر جديدة وتصادفني رؤىً وأفكار مختلفة عن الحياة في شكل شعري فسأعتبره شعرًا، ولا يعنيني فيها أكثر مما عنى حسن أو أكثر مما قاله نجيب سرور:
الشعر مش بس شعر لو كان مقفى وفصيح .. الشعر لو مسّ قلبك وقلبي شعر بصحيح.

eg.opera


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يسعدني أن أسمع رأيكم

جديد الموقع

الأكثر مشاهدة (كل الوقت)

خذ ساقيك إلى النبعخذ ساقيك إلى النبع by كامل فرحان صالح
My rating: 5 of 5 stars

ديوان «خذ ساقيك إلى النبع» للشاعر والأكاديمي اللبناني كامل فرحان صالح، صدر لدى «الهيئة العامة لقصور الثقافة» في القاهرة في العام 2013، ضمن «سلسلة آفاق عربية» الشهرية. وأتى هذا الديوان بعد عشرين سنة من صدور ديوان «كناس الكلام» للشاعر صالح، الصادر لدى دار الحداثة في بيروت في العام 1993.
يضم الديوان الجديد الذي وقع في 139 صفحة، 44 قصيدة، وقد أهداه صالح «إلى أرواح من عبروا». أما الغلاف فهو من تصميم أحمد اللباد. يعدّ «خذ ساقيك إلى النبع» الرابع لصالح، بعد « أحزان مرئية » (1985)، و« شوارع داخل الجسد » (1991). و« كناس الكلام ». كما له في الرواية: جنون الحكاية - قجدع ) (1999)، و« حب خارج البرد » (2010). وفي الدراسة: « الشعر والدين: فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي » (ط1 ــ 2004، ط2 – 2010). و" حركية الأدب وفاعليته : في الأنواع والمذاهب الأدبية " (ط1: 2017، وط2: 2018)، و" ملامح من الأدب العالمي " ( ط1: 2017، وط2: 2018)، و" في منهجية البحث العلمي " (ط1: 2018 ).
كتبت عدة دراسات وقراءات في الديوان، ويمكن الاطلاع عليها عبر موقع الشاعر، عبر الرابط الآتي:
https://kamelsaleh1969.blogspot.com/s...
ويمكن تحميل ديوان خذ ساقيك الى النبع من هنا :
https://documentcloud.adobe.com/link/...

View all my reviews