قزحيا ساسين – جريدة الجريدة* – الكويت 31 أغسطس (آب) 2014 - تحميل الديوان
يعيش الكثيرون من شعراء الحداثة ألم البحث عن المعنى، الذي يلبسونه عباءة الرمزيّة ذات الظلال الكثيفة، فيصطاد النصّ قارئه بشبكة التأويل ليغدو شبه مشاركٍ في صناعة الجملة المتعدّدة دلاليّاً.
وحين يكون المعنى مطلوباً أوّلاً تتنازل الجماليّة له ليؤلّفها ويشكّلها وفقاً لمزاجه، إذ إنّ الانفعال يدعو العقل إليه فيصبح الاحتفال بالنصّ احتفالاً على مستويين: عقلي وعاطفي. وكلّما ازداد حضور المجاز المغلق ضاقت الرئة التي تتنفّس منها العاطفة في النصّ.
في «خذ ساقيك إلى النبع» يعود الشاعر اللبناني كامل فرحان صالح من ذاته إلى ذاته الأعمق. يحاور ظلاله على مرأى من شمس جديدة. يغتصب مفرداته بنبل وبياض. ينشُد المصدر باسم من أسمائه الكثيرة وهو «النبع». ويحمل ساقيه إليه، الساقين اللتين تختصران السعي والطريق وإرادة المسير.
وصالح الذي يبحر باتّجاه الآتي، لافّاً عمامة من عمامات النبوءة، يترك عينيه تحتضنان بعضاً من الماضي، من خلال إهداء الكتاب: «إلى أرواح من عبروا». فمن هم هؤلاء العابرون؟ قد يكونون الذين حملوا سيقانهم إلى النبع وصاروا جزءاً من ذاكرة الماء وضمير العطش، وقد
يكونون الذين فتحوا أبواب التراب، وتركوا مفاتيحهم ترسم أبواباً لهم جديدة على شرفة الغياب.
الماء والعبور
في قصيدته إلى «منذريوس مصريام» يعلن صالح بلغة رمزيّة هادئة أنّ الماء، وحده، يتّسع للعبور. الماء يجتاز الموت، ويصل من حياة إلى حياة، دون أن تنهبه شمس، حيث الفرح هو من صناعة مائية أيضاً، وإذا كان لا بدّ من رؤيا تقول في العتمة كلمة من نور، فالعراء الذي لا يرتدي إلاّ ماءه هو المؤتمن الوحيد على هذه الرؤيا:
- «طرفُ غابتكَ يلوذ بك / دون بلل شهيّ / يعبر سرّ الساكن في مائك / إلى حياتك الأخرى / لا تمدّ يدك إلاّ لتفرح / تجوع لحفرة صاغها سبيل طيّب / تشهر هناك عريك / برئتين تتسربلان عتمة الرؤيا»...
- «خذ ساقيك إلى النبع / أعصر ريق البارحة من ريق النبوءات / لتطهّر الأرض الأولى من جوع ربّ يتسلّى بالأرقام؟».
- «النساء الرشيقات / يعجنّ طحين روحي بماء وعسل / يا خلاصي الكبير / في أعلى الزيتونة سرّ المسيح / بقبضة نهر يعمّد المجنون نعمتي بالحنين».
في فيء أسوار المرأة، يقف كامل صالح، أيضاً، مسكوناً ببكارة البدايات، فهو منذ كان آدم رفيق وحدته يتهجّى إصبع أنثاه:
- «منذ اتكأ آدم على وحدته / أتهجّى إصبعك الصغير»،
- «فتدور الأرض من لهفتي عليك/ لأعيد حياكة السماء»،
- «وعندما أشيخ دعيني / أهرّ / أهرّ / كزيتون جبل الشيخ / لأحبّك كعجوز يتأمّل معجزة ليطير كملاك».
- «نظر ملوك المجوس في الأرض ثانية / سألوا نواطير الكروم... / ولم يهتدوا إلاّ إليكِ / كانت زيتونة تهزّ السماء بسؤال / فيقع في الريح ولد»...
- «عندما حضرتِ في النور / خجلت الجنّة وارتبك التفّاح»...
- «حزنك خروج اللغة إلى الصمت / والحرب إلى السلام / حزنك ولد يبحث في روح أبيه عن حلوى ومطر»...
- «أتملّى بللك بسورة مريم / فتهديني سرّ تحوّلاتك المعطّر بالنعناع / أصير علامة نهر العبور»...
والمرأة عند صالح خشبة خلاص من حروب تستهدفه، فكأنّ كلّ دم يسيل هو من عروقه، وكلّ أمّ تبكي هي بعض من أمومة فيه. ويبقى الماء حاضراً على امتداد القصائد، الماء الذي يؤوي النّور في تدفّقه:
- «الحروب كثيرة وكلّها تقتلني / فنامي في روحي وغنّي... / أريد ماء يطلع من دخولي / نوراً يسربل الأحجار في صدري / بيادر لا هزيمة تعبرها»...
لا يتخلّى صالح عن توقه إلى الخلاص، كما أنّه أسير قاموس يحترف الوفاء لمفرداته، ويريد من الكلمة أن تقول نفسها، ثم تعود لتقول جديداً لم تقله في المرّة السابقة:
- «أحصدي قمح انتظاراتي / بئرُكِ مناولة / وأنا أرسم خيبتي نافذة / علّ التعب يشفيني».
ويأتي نصّ «نعاتب لنبقى أنقياء» بوّابة عبور من آخر ديوان صالح إلى أوّل الخلاص الذي لا يجترحه إلاّ الحبّ، وفي هذا النصّ يعترف الشاعر بأنّ من الأسئلة ما لا جواب له، وقد لا يكون الجواب سوى صياغة جديدة للسؤال ومن حقول الدنيا ما هو مزروع سنابل، ومنها ما هو مزروع علامات استفهام:
- «نحن الطيبين / نرمي الرياح بقبلة... / ننسى أنّ في الطريق أسئلة لا إجابات لها... / نحن الطيّبين / على أجسادنا عطر أحبّة رحلوا... / لا نقدر إلاّ على الحبّ... كالله تماماً».