قراءة: ممدوح رزق *
في ديوانه خذ ساقيك إلى النبع الصادر حديثًا عن سلسلة (آفاق عربية) في "الهيئة العامة لقصور الثقافة" في القاهرة، يوجّه كامل فرحان صالح المجاز نحو الأصول الكونية المحتملة للحياة.. المنابع الغامضة التي تُخبّيء أسرار وتفسيرات الخلق، والإيجاد.. يبدو إذن كأن لديه ولاء ما تجاه الالتزام الشعري المعهود بتوجيه خطاب اللغة نحو المطلق، توظيف حيّل البلاغة في تكوين الصور المجردة للمشاهد الحسية، أو بشكل أدق، محاولة الكشف عن المحركّات، والأسس التنظيمية الواردة للمدرك، والمحسوس.. تفحص، وانتزاع الملامح الغائمة للأفكار الكُلية، والرغبات الكامنة فيما وراء الحضور المتعيّن، يقول:
"طرفُ غابتك
يلوذُ بك
دون بلل شهي
يعبر سر الساكن
في مائك
…
إلى حياتك الأخرى
لا تمدّ يدك
إلا لتفرح"
من باب مقابلة المجاز بالمجاز ـ كما يروق لي دائماً ـ فإن ساحة الحرب الواسعة المشبهة بالغابة، التي من
اللائق طبعاً أن يطيب لك ـ مجبراً ـ الانزواء في طرفها منهكاً، وجاهلاً، ومرعوباً يمكن لها، بل صالحة تماماً للتضاد مع المنطق.. التضاد الذي يعطي شعوراً أقوى بالهزيمة المراد تتبعها، وبالالتباس المرجو تشريحه. أنت لا تنشد الحماية من طرف ساحة الحرب الواسعة المشبهة بالغابة بل أن هذا الطرف هو الذي ينشد الاحتماء بك، أي تصور عن طبيعة (الغابة) يمكن أن يمنحه هذا التضاد؟
لكن يمكن للمنطق أن يتحوّل بالكامل وفقاً لتفسير آخر دون تغيّر في ترتيب المجاز. أتحدث عن وصولك إلى حالة من الأمان، والصلابة الشخصية التي تجعلك مهيأً لتوفير الحماية لوقائع، وتفاصيل، وبالطبع لكائنات (الحرب) التي تنتمي إليها.. الغريب ـ لكنه عادي للغاية على المستوى البلاغي ـ أنه في سياق ذهني ما يمكننا إزالة الاختلاف بين التفسيرين، فيتوقف التناقض عن العمل، ويصبحان وجهين حيويين لتأويل واحد. هنا تتحقق، وتتجلى بشكل مثالي الحالة الاعتيادية لمخاطبة المطلق.. أنها تذيب الفارق بين اتجاهين عكسيين للدلالة، لتدمجهما في هاجس تجريدي، لا تتعطل مرونته، ولا قدرته على تحفيز الجدل، وتنشيط الإلهامات المتناسلة. كيف يحدث هذا؟ وأي دليل يبرهنه؟.. ( دون بلل شهي ) التي مع إحالتها إلى الجفاف، والعطب، تقودنا إلى الوهم الأكيد، المضمر داخل أي حالة أمان، أو إحساس بالصلابة الشخصية ..
لماذا؟ لأنه محكوم بالصد.. بالاحتجاز بعيداً عن (سر الساكن في مائك) .. الأصل الكوني المحتمل للحياة الذي أشرت إليه في البداية.. (الماء) التي لدي رغبة في التعامل معها كمرادف للـ (نطفة)، وأجدها أكثر ملائمة للـ (السر)، و(الساكن)؛ أليست أكثر الكلمات التصاقاً بالـ (النبع) بشقيه الواقعي، والمجازي؟.. ماء النبع. ماء الخلق. المصدر الغامض الذي يحوي تفسيرات الإيجاد كما أشرت في البداية أيضاً.. بينما يتم تشييد ذلك الخطاب الذي يبدو مناسباً للمراوحة بين الذات، وظلالها المتعددة يعثر الخيال على فرصته كي يبرز (الحياة الأخرى) .. التي هي ظن في رأيي .. مثل (اليد)، و(الفرح). أمنية أو رجاء عن عالم مبهم لم يغادر عتمة التصور. لذا هو أفضل تعبير عن (السر الساكن في مائك)
اللائق طبعاً أن يطيب لك ـ مجبراً ـ الانزواء في طرفها منهكاً، وجاهلاً، ومرعوباً يمكن لها، بل صالحة تماماً للتضاد مع المنطق.. التضاد الذي يعطي شعوراً أقوى بالهزيمة المراد تتبعها، وبالالتباس المرجو تشريحه. أنت لا تنشد الحماية من طرف ساحة الحرب الواسعة المشبهة بالغابة بل أن هذا الطرف هو الذي ينشد الاحتماء بك، أي تصور عن طبيعة (الغابة) يمكن أن يمنحه هذا التضاد؟
لكن يمكن للمنطق أن يتحوّل بالكامل وفقاً لتفسير آخر دون تغيّر في ترتيب المجاز. أتحدث عن وصولك إلى حالة من الأمان، والصلابة الشخصية التي تجعلك مهيأً لتوفير الحماية لوقائع، وتفاصيل، وبالطبع لكائنات (الحرب) التي تنتمي إليها.. الغريب ـ لكنه عادي للغاية على المستوى البلاغي ـ أنه في سياق ذهني ما يمكننا إزالة الاختلاف بين التفسيرين، فيتوقف التناقض عن العمل، ويصبحان وجهين حيويين لتأويل واحد. هنا تتحقق، وتتجلى بشكل مثالي الحالة الاعتيادية لمخاطبة المطلق.. أنها تذيب الفارق بين اتجاهين عكسيين للدلالة، لتدمجهما في هاجس تجريدي، لا تتعطل مرونته، ولا قدرته على تحفيز الجدل، وتنشيط الإلهامات المتناسلة. كيف يحدث هذا؟ وأي دليل يبرهنه؟.. ( دون بلل شهي ) التي مع إحالتها إلى الجفاف، والعطب، تقودنا إلى الوهم الأكيد، المضمر داخل أي حالة أمان، أو إحساس بالصلابة الشخصية ..
لماذا؟ لأنه محكوم بالصد.. بالاحتجاز بعيداً عن (سر الساكن في مائك) .. الأصل الكوني المحتمل للحياة الذي أشرت إليه في البداية.. (الماء) التي لدي رغبة في التعامل معها كمرادف للـ (نطفة)، وأجدها أكثر ملائمة للـ (السر)، و(الساكن)؛ أليست أكثر الكلمات التصاقاً بالـ (النبع) بشقيه الواقعي، والمجازي؟.. ماء النبع. ماء الخلق. المصدر الغامض الذي يحوي تفسيرات الإيجاد كما أشرت في البداية أيضاً.. بينما يتم تشييد ذلك الخطاب الذي يبدو مناسباً للمراوحة بين الذات، وظلالها المتعددة يعثر الخيال على فرصته كي يبرز (الحياة الأخرى) .. التي هي ظن في رأيي .. مثل (اليد)، و(الفرح). أمنية أو رجاء عن عالم مبهم لم يغادر عتمة التصور. لذا هو أفضل تعبير عن (السر الساكن في مائك)
تجوعُ لحفرةٍ صاغها سبيلٌ طيب
تشهر هناك عريك
برئتين تتسربلان عتمة الرؤيا
تخمّرُ الهواء
والحجرُ يمشي إليّ… إليك
..
وتشم دمي
…
كلُّك مني
وكلّني منك
وكلّهم يستوون تحت عشبةِ صلاةٍ باهرة
يرفعون جسدا نحو لعنة الأعالي
لتنزّ غيمة بعض قطرات…
على صخرة
السيد يتزين بمقام السيدة
يرشقُ الأفقَ الناعم بتينٍ وصبّار
وفي أسفل العين
يئنُ كذئبٍ وحيد
يتهجّى الأمل
لدينا هنا تنويعات داعمة للاحتمالات الجوهرية التي شكّلت القاموس التأويلي السابق. الحفرة. السبيل الطيب. العري. عتمة الرؤيا.. لكن هناك اقتران بفعل.. بحركة توسل أو تقديم قربان للوصول إلى نتيجة.. صلاة. ما الذي يمكن الحصول عليه عند رفع جسد إلى (لعنة الأعالي)؟.. قطرات على صخرة. الضعف الذي يتحطم أمام الصلادة. قد يرتبط ذلك بعلاقة ما مع الخيال الذي ينسج (حياة أخرى) لا تعدو أكثر من أمنية أو رجاء. نفس الحال ـ كأن تجسيداً للصورة السابقة يتم في مرآة أكثر وضوحاً ـ لا ينجح رشق (التين، والصبار) ـ لاحظ رمزي الحياة والموت في الاختيارين ـ نحو الأفق الناعم في إخماد أنين (أسفل العين).. أريد الآن أن أبني صلة بين (لعنة الأعالي)، (العين)، و(الأفق).. العين المعلقة.. الأصل.. المنبع الذي يجلس أسفله ذئب وحيد ـ تصلني قسوة جوعه في هذه اللحظة ـ غير قادر على مجرد النطق السليم للـ (الأمل)
خذ ساقيك إلى النبع
أعصر معنى البارحة
من ريقِ النبوءات
لتطهّر الأرض الأولى
من جوعِ ربٍّ
يتسلّى بالأرقام
… وارقص مثلي
على
عمرٍ
يمضي
نحو
حليبِ الآثام المعطّرة بالزعفران
كأن (شفرة) آن لها أن تُفك بدرجة ما.. إرسال ضوء خفيف باتجاه حصيلة من الشذرات المراوغة تم تجميعها بالتدريج، وتنسيق تداخلاتها، واقتراحاتها في سياق شاحب جداً. هذا ما يجعل الخطاب الشعري يتخفف من حمولة (اللاوصف) أي استبدال الصورة الملموسة، بفضفضة لغة ينبغي لارتكاباتها خلخلة أي يقين عن (المشهدية)، وإزاحته من صدارة الوعي.. يحتفل المجاز هنا بنبرة تجمع بين الاستغاثة، والتمسّك بالطمأنينة.. التوجيه العارف، ومقاومة اليأس.. التعامل مع التجارب كخبرة ثمينة لها أهميتها وضرورتها، وفقدان الثقة الذي يسعى لتضليل الاعتراف.. (خذ ساقيك إلى النبع) .. بعد أن نتعرّف على ذلك الإيحاء بالبتر، وبانفصال الساقين عن الجسد ـ لاحظ الفرق بين (المشي)، و(أخذ الساقين) ـ كأنهما ساقان مجازيتان في حقيقة الأمر، تعويضيتان عن شلل الساقين الواقعيتين..
بعد أن نتعرّف على ذلك الإيحاء ينبغي أن نتساءل (أي نبع إذن؟) طالما أن الساقين مجازيتان، فمن الأجدر إذن أن يصير (النبع) مجازياً كذلك.. تعويضي عن النبع الأصلي. إنه الأصل الذي يخصنا في غياب الأصل الكوني.. الذي سنحاول أن نجعله ـ بطريقتنا، وبقدر الحدود، والإمكانيات المتواضعة، والمتاحة ـ أصلاً كونياً.. كيف؟.. (اعصر معنى البارحة/ من ريق النبوءات) .. تخليص الماضي من القرارت الجازمة التي لم تتوقف أبداً عن تقديم ثوابتها كآلهة غير مشكوك في قدسيتها.. تصفيته من أساليب، وأشكال التوقع البديهية، الخالدة، الملزمة بإنتاج الواقع كنسق محنط. لكن (الرب) الذي ستتطهر الأرض (أصبحت الأرض الأولى حينئذ، الخيالية ربما، وتعويضاً عن الأرض الأولى الأصلية) من جوعه ليس (الرب) بل (رب) يضم (الذات، وظلالها المتعددة) حتى لو بدا أن (يتسلى بالأرقام) ساهمت في جعل الربوبية محددة، ولكن (التسلية بالأرقام) تشمل الجميع! .. الجميع أيضاً يرقصون بنحو أو بآخر على (عمرٍ/ يمضي / نحو/ حليبِ الآثام المعطّرة بالزعفران ..) نحو حصاد ذنوب لها رائحة الزعفران قد يكون اسمه الموت، أو قد يكون له اسم آخر، أو حياة أخرى حقيقية؛ ليست مجرد أمنية، ولا رجاء.
كاتب وناقد مصري *