بحث

17 يناير 2009

الدكتور كامل صالح: تعامل الشعر مع النصوص الدينية بحرية كاملة ولم يخضع لسياقها


الاتكاء على الإبداع الغربي دفع إلى بروز الرموز المسيحية في الشعر العربي

- جدة: حليمة مظفر
- صدر أخيراً للكاتب اللبناني الدكتور كامل فرحان صالح «الشعر والدين/ فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي»، عن دار الحداثة ببيروت، تناول فيه علاقة الشعر بالدين، التي وجدها شائكة ومتشابكة إلى حد بعيد بل ومتداخلة باعتبار وظائفها الاجتماعية. المتسلحة بنوع من قداسة الكلمة/الشعر.
هنا حوار معه على هامش الكتاب:
يرى مؤلف «الشعر والدين» أنه من خلال العودة إلى تاريخ المجتمعات البشرية في مراحل تكونها الأولى، يتمظهر مظهر التشابك بين الدين والشعر من خلال دور الساحر الذي مهد الطريق لظهور طبقة الكهنة
ويقول ان هذه الطبقة من الكهان، استناداً إلى أرنولد هاوزر في كتابه «الفن والمجتمع عبر التاريخ»، قد طورت من صلواتها وطقوسها لتشمل التمثيل والرقص والغناء ورسم اللوحات، ومن ثم أخذت تضيف إليها من التعقيدات ما يجعلها غير قابلة لفهم العامة تعميقا لسلطتها الاجتماعية. ويقول: «مع مرحلة التخصص التي يتطلبها المجتمع بحكم التطور، انفصلت الامكانات التي كان يجمعها شخص واحد إلى وظائف عدة، وهكذا بدأ الفن/الشعر ينفصل عن الدين مرة أخرى، بعد أن تعلم في حضنه السمو والتحليق».
ولكن هل هناك فاعلية في هذه العلاقة؟ يجيب عن ذلك بقوله: «فاعلية الارتباط الوثيق بين الدين والفن بشكل عام، والشعر بوجه خاص، ظلت تلازم تطور المجتمعات البشرية، وبالتالي تطورهما نفسيهما، في اتجاه الفصل بينهما، أو تمايز الفن والشعر عن الدين باعتباره نشاطا أو فاعلية مستقلة، ويمكن أن يظهر هذا واضحا في الأديان الكبرى، سماوية كانت أو غير سماوية».
ويستشهد المؤلف بوجود النصوص الدينية المقدسة التي بها العديد من المقاطع والأجزاء الشعرية، مثلما لاحظ ذلك في العهد القديم: أيوب، داود، سليمان، وأرميا صاحب المراثي، وهم ممن يجمعون بين النبوة والشعر، ويقول عنهم: «لقد تميزت أسفارهم في الكتاب المقدس بشعرية عالية الرقي الفني، ولكن قبلهم تم العثور على صلوات هي عبارة عن نصوص شعرية لاخناتون صاغها للشمس شعرا راقيا».
ويصل من خلال كتابه إلى استنتاج «ان الانفصال بين الدين والشعر العربي اتخذ المسار اليوناني عينه. ويبدو أن هناك آلية واحدة تكررت في المجتمعات والحضارات والثقافات كافة، طالما أن نشأة الفنون جميعها ارتبطت بالدين والممارسات الشعائرية».
ويضيف الدكتور كامل: «لقد استطاع الفن/ الشعر من خلال انفصاله عن الدين أن يستشرف آفاقا، أو يفتح أخرى أمامه، فأخذ الشاعر من الدين قدسية الكلمة وسحريتها، والاعتقاد في تأثيرها، كما أخذ معه من الدين بذرة الأسطورة، بما أن الأسطورة هي ذلك الجزء الناطق والممثل من الشعائر الطقوسية البدائية».
ومن خلال دراسته البحثية، أوضح تلك العلاقة التي ترتبط بين النص الديني المقدس وبين الشعر نفسه، خاصة فيما يتعلق بالقرآن الكريم «على عكس التوراة، التي كانت في أغلبها نصوصا شعرية، والإنجيل الذي لم يبد رأيا في الشعر، وإن جاءت أغلب قصصه، ومواقف المسيح عيسى عليه السلام، وحكمه، في قالب شعري».
ما هي طبيعة هذا العلاقة بالضبط؟
يقول: «تبدو علاقة القرآن بالشعر أكثر توترا وغموضا، وانعكس ذلك في الاجتهادات الفقهية، ليس تجاه الشعر وحده، بل وسائر الفنون، وقد تراجع الشعر مع الإسلام، الذي أبدى شيئا من التحفظ على الممارسة الشعرية، ووضع لها شروطا، وحدد لها حدودا، فسادت وسيطرت سلطة النص القرآني المقدس بصورة مطلقة على كل قول، واكتفى الشعر بهامش ترديد صدى التعاليم الإسلامية، أو لاذ بهامش الهرطقة والمجون ليعبر عن نفسه، إلا إن ذلك لم يحُل دون تأثير النص القرآني في الشعر العربي بشكل ايجابي فيما بعد وقد تبدى هذا التأثير متنوعا، متخذا أكثر من شكل».
ويجد كامل أن الشاعر باعتباره وريثا للرائي والعرّاف، يمنح لنفسه وللشعر سلطة التصرف في التاريخ والنصوص الدينية المقدسة، لأنه أصبح فاعلية اجتماعية موازية للدين، ليست أقل ولا أكثر منه، ولكنها فاعلية ذات آليات منفصلة وخاصة. فالشعر مثله في ذلك مثل كل الفنون الأدبية، يعالج التاريخ معالجة أسطورية، على نحو خاص، فلا ينظر إلى البطل التاريخي والأحداث في ضوء الحقائق التاريخية، والوثائق المعروفة، بل إن الرؤية الفنية للشاعر تتجاوز ذلك الإطار الواقعي، وتلك الدلالة المحدودة، إلى دائرة خيالية تتحرك فيها الحوادث والأبطال، كما تتحرك في عالم الأسطورة، لتتيح للشاعر أن يبث من خلال ذلك العالم ما يريده من غايات إنسانية دفينة، وأن يتخذ من الشخصية التاريخية قناعا لفكره، وبهذه النظرة الفنية ينظر الشاعر إلى الكتب المقدسة، وإلى ما جاء فيها من قصص.
وعن تعامل الشعر مع هذه النصوص الدينية، يقول المؤلف: «لقد اتسم بالحرية الكاملة، ولم يخضع لسياقها الديني بل قام بتوظيفها شعريا، بما يحقق التعبير عن الرؤية الخاصة للشاعر، في السياق الشعري الخاص به، بما يجعل النص الشعري، أحيانا، موازيا للنص الديني المقدس، وفي أحيان أخرى، معارضا لمضامينه، وأحيانا أخرى، مستشهدا به، وغيرها من الاستخدامات في التعامل»، لكنه على حد قوله في كل ذلك «يؤكد النص الشعري انفصاله التام عن النص الديني المقدس، واعتباره كيانا قائما بذاته».
وعن شعراء الحداثة الذين أوغلوا في النصوص المقدسة عميقا يقول: «لقد اتكأ شعر الحداثة على إشاراتها وقصصها ورموزها، مستعيدا ومعيدا صياغتها في سياق تعبيره عن أزمته الذاتية والموضوعية، لتجده حينًا يُسقط خيانة يهوذا على عصره، ويستخدم معجزة لعازر، ومشهد العشاء الأخير، وجسده كخبز للعالم، ورمزي الأم والماء، ومستحضرا الأمكنة والأنبياء، من النص التاريخي/ الديني إلى حاضره ويومه».
وأضاف: «لقد حاول الشاعر الحداثي إنتاج نصّ شعري بمحاذاة النص المقدس، وهو يفعل ذلك بالمحاذاةِ الشكلية أحيانًا، مستعيرًا أسماء أقسام النصوص الدينية ووظيفتها، مثل المزامير والأسفار والآيات، وأحيانا عن طريق محاذاة مضمون النصوص الدينية، حيث يعيد صياغة الآيات، سواء آيات قرآنية أو توراتية أو إنجيلية، لتخرج من حيزها التاريخي وقدسيتها الإلهية، وتعبر إلى اليومي، والحاضر، وتصبح رؤيا خاصة بالشاعر للعالم والإنسان والحياة كلها».
ويرى كامل ان استخدام الرموز الدينية في الشعر لا تعني أن هذا الشاعر ينطلق من تجربة دينية، أو أن القصيدة لديه تحولت إلى عظات وخطابات دينية، إنما اتكأت على ذلك، وأفادت منه بدلالاته المختلفة، لتقوم القصيدة على تفاعل هذه العناصر مع رؤية الشاعر وواقعه، لتفتح بالتالي أفقا جديدا قوامه النص العابق بالتساؤل واللاجواب.
ويقول عن ذلك: «معظم الرموز المستخدمة تنقل معاناة الشاعر الذهنية والجسدية، مجسدة حالته النفسية بأنه مضطهد وغريب في مجتمعه، وأن جهوده لإصلاح الوضع ضاعت سدى، ولهذا أخذت الرموز في مجملها طابعا مأساويا».
ومع ذلك يجد الدكتور كامل أن شعراء الحداثة الذين أوغلوا في استخداماتهم للرموز الدينية لم ينطلقوا في حركتهم التجديدية من خلال تراكم تاريخي ثقافي عربي خالص، وإنما على حد قوله: «تحت مظلة التأثير الشعري الغربي لا سيما عند الشعراء عزرا باوند وإليوت وسوزان برنار وبودلير ورامبو ولوتريامون واديث ستويل وغيرهم من شعراء الغرب ونقاده». وقد توالت اعترافات شعراء الحداثة بهذا التأثير بصراحة ووضوح، إضافة إلى أن الاتكاء على المساحة الإبداعية الغربية هي التي دفعت إلى بروزِ الرموز المسيحية في الشعر العربي المعاصر، ويعني هذا بالتالي، أن التأثر بنصوص الكتاب المقدس كانت هي بدورها، نتيجة التأثر بالآخر / الغرب، كما الصوفية».


- (الشرق الاوسط الاربعـاء 26 ذو الحجـة 1426 هـ 25 يناير 2006 العدد 9920)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يسعدني أن أسمع رأيكم

جديد الموقع

الأكثر مشاهدة (كل الوقت)

خذ ساقيك إلى النبعخذ ساقيك إلى النبع by كامل فرحان صالح
My rating: 5 of 5 stars

ديوان «خذ ساقيك إلى النبع» للشاعر والأكاديمي اللبناني كامل فرحان صالح، صدر لدى «الهيئة العامة لقصور الثقافة» في القاهرة في العام 2013، ضمن «سلسلة آفاق عربية» الشهرية. وأتى هذا الديوان بعد عشرين سنة من صدور ديوان «كناس الكلام» للشاعر صالح، الصادر لدى دار الحداثة في بيروت في العام 1993.
يضم الديوان الجديد الذي وقع في 139 صفحة، 44 قصيدة، وقد أهداه صالح «إلى أرواح من عبروا». أما الغلاف فهو من تصميم أحمد اللباد. يعدّ «خذ ساقيك إلى النبع» الرابع لصالح، بعد « أحزان مرئية » (1985)، و« شوارع داخل الجسد » (1991). و« كناس الكلام ». كما له في الرواية: جنون الحكاية - قجدع ) (1999)، و« حب خارج البرد » (2010). وفي الدراسة: « الشعر والدين: فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي » (ط1 ــ 2004، ط2 – 2010). و" حركية الأدب وفاعليته : في الأنواع والمذاهب الأدبية " (ط1: 2017، وط2: 2018)، و" ملامح من الأدب العالمي " ( ط1: 2017، وط2: 2018)، و" في منهجية البحث العلمي " (ط1: 2018 ).
كتبت عدة دراسات وقراءات في الديوان، ويمكن الاطلاع عليها عبر موقع الشاعر، عبر الرابط الآتي:
https://kamelsaleh1969.blogspot.com/s...
ويمكن تحميل ديوان خذ ساقيك الى النبع من هنا :
https://documentcloud.adobe.com/link/...

View all my reviews